غالبًا ما تبدأ السياسات بتصريح لأحد المسؤولين، وعادة ما تتبلور المواقف وترسم السياسة بمباحثات مكثفة خلف الأبواب المغلقة لهؤلاء المسؤولين. فجوة السياسات المقترحة والمطبقة بين المسؤولين وبين قطاع من الشعوب باتت صفة لصيقة لمجمل الممارسة السياسية في العالم المعاصر. هذه السمة لا تخص النظم الدكتاتورية فقط؛ بل تعاني منها الديمقراطيات الصناعية أيضًا. أصبحت أزمة التمثيل والوكالة عن الناس أزمة هيكلية في الزمن المعاصر لأسباب عديدة منها:
- ضعف المؤسسات السياسية.
- سيطرة أصحاب المصالح من رجال أعمال وغيرهم على صنع السياسات واتخاذ القرارات. تآكل النخب السياسية.
- بالإضافة إلى تغذية النزعات الشعبوية وصعود القومية.
- ناهيك عن الانقسام المجتمعي والاستقطاب الذي يتم تغذيته بشكل دائم ومستمر من خلال المعلومات المضللة والمجموعات المتشابهة والساسة الشعبويين …إلخ.
أما في عالمنا العربي؛ فتزداد الفجوة بين الحكام وبين شعوبهم؛ إذ يسود اعتقاد باستقلال الأولين بتقرير الأمر وتدبير الشأن العام بعيدًا عن ضغوط الأخيرين. حكامنا أعلم بأمور دنيانا وأخرانا على السواء. يحاول الحكام وإعلامهم فرض الأجندة التي يجب أن نتناقشَ فيها، وأن يصيغوا إدراكنا المستقبلي وَفقًا لما يفرضونه من مواقف، لكن مع تطورات أدوات الاتصال صار صراخ الجماهير في وجوههم أمرًا ضروريًا لإحداث التوازن المطلوب. مثلت استطلاعات الرأي – برغم ما يشوبها من قصور- إحدى القنوات المهمة للإنصات للناس العادية، ومنها وفيها يظهر الخُلْف البيّن بين ما يقوله الساسة وبين ما يريده الناس.
حقائق ثلاث
ما يمكن استخلاصه من استطلاعات متعددة جرت قبيل “الطوفان” وبعده حقائق ثلاث نعرض لها في هذا المقال. هي ليست وحدها، بل هناك ما يتعلق بترتيبات اليوم التالي في غزة، وفشل التهجير القسري مع إمكانية الهجرة الطوعية لنسبة معتبرة من الغزيّين تصل إلى الربع -وَفق استطلاعات الرأي- وهو ما يستحق أن أخصص له مقالًا مستقلًا لأهميته.
الحقائق الثلاث هي:
- قضية فلسطين قضية العرب المركزية؛ فهي عنوان الولاء والبراء في السياسة العربية.
- تأييد شعبي واسع لعملية “طوفان الأقصى”، وإدراك للأسباب التي تقف وراءها.
- رفض قاطع للتطبيع، وإيمان بالكفاح المسلح لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة.
فلسطين عنوان الولاء والبراء السياسي
أجمعَ الشارع العربي -وفق بيانات المؤشر العربي- على اعتبار القضية الفلسطينية “قضية جميع العرب وليست قضية الفلسطينيين وحدهم” بنسبة 92%. ومن الجدير بالذكر أن هذه النسبة غير مسبوقة عند مقارنتها بنتائج سنوات سابقة، فقد ارتفعت من 76% في نهاية عام 2022، إلى 92% في هذا الاستطلاع. وارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا في بعض الدول؛ ففي المغرب ارتفعت من 59% في عام 2022 إلى 95%، وفي مصر من 75% إلى 94%، وفي السعودية من 69% إلى 95%، على نحوٍ يعكس ارتفاعًا جوهريًا من الناحية الإحصائية، وتحولًا أساسيًا في آراء مواطني هذه البلدان.
تظلّ القضية الفلسطينية ذات أهمية حيوية للرأي العام العربي، ولم تفقد أهميتها لدى الأجيال الجديدة، وعلى الرغم مما قد يفترضه العديد من العواصم الغربية وكثير من الحكومات العربية؛ فإن إسرائيل لن تكون قادرة على صنع السلام مع جيرانها ما دام الفلسطينيون لا يملكون دولة.
أظهرت نتائج المؤشر العربي التي نُشرت من أيام قليلة أنّ المواطنين العرب يتعاملون مع هذه الحرب على أنها تمسّهم مباشرة؛ إذ عبّر 97% من المستجيبين عن أنهم يشعرون بضغط نفسي (بدرجات متفاوتة) نتيجة للحرب على غزة؛ بل إن 84% قالوا؛ إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير. أفاد نحو 80% من المستطلعين بأنهم يداومون على متابعة أخبار الحرب، مقابل 7% قالوا؛ إنهم لا يتابعونها. وتتوزع مصادر المتابعة على قنوات التلفزيون بنسبة 54%، وشبكة الإنترنت بنسبة 43%.
هنالك إجماع عربي على التضامن مع الشعب الفلسطيني؛ حيث توافَق على ذلك 92% من المستجيبين؛ فقد عبّر 69% منهم عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في غزة وحركة حماس، في حين أفاد 23% بأنهم متضامنون مع الشعب الفلسطيني -وإن اختلفوا مع حماس- وقال 1% فقط إنهم غير متضامنين.
وعلى مستوى تقييم الرأي العام العربي لسياسات القوى الإقليمية والدولية تجاه الحرب على غزة، فقد عكست النتائج أنّ الرأي العام العربي يعارض سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه الحرب على غزة، فقد قيّم 94% من المستجيبين موقفها بـ “سيئ” و”سيئ جدًا”، وقال 82% إنه سيئ جدًا. وفي السياق نفسه، توافق 79% و78% و75% على أن مواقف كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، على التوالي، سلبية. في حين انقسم الرأي العام العربي بخصوص مواقف إيران وتركيا وروسيا والصين؛ بين من رآها إيجابية (48%، 47%، 41%، 40%، على التوالي)، ومن عدَّها سلبية (37%، 40%، 42%، 38%، على التوالي).
وفي استطلاع قام به الباروميتر العربي -تم تطبيقه على عينة من التونسيين قبيل “الطوفان” مباشرة واستمر بعده لأيام قليلة- شهدت كل دولة في الاستطلاع لها علاقات إيجابية أو دافئة مع إسرائيل انخفاضًا في معدلات تأييدها بين التونسيين. وشهدت الولايات المتحدة أكبر انخفاض، لكن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين أقاموا علاقات مع إسرائيل على مدى السنوات القليلة الماضية شهدوا أيضًا انخفاضًا في أعداد تأييدهم.
يمكن للمحللين والمسؤولين أن يفترضوا بأمان أن آراء الناس في أماكن أخرى من المنطقة قد تغيرت بطرق مشابهة للتغيرات الأخيرة التي حدثت في تونس. توافق نحو 77% من الرأي العام العربي -وفق بيانات المؤشر العربي- على أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما الأكثر تهديدًا لأمن المنطقة واستقرارها. رأى 51% أن الولايات المتحدة الأكثر تهديدًا، ورأى 26% أن إسرائيل تشكل التهديد الأكبر…
يمكن قراءة المقال الكامل على منصة الجزيرة