تصورات فلسطينيي غزة لنظام الحكم المستقبلي: تباينات واضحة وطموحات عالية

مقدمة

تعتبر معركة غزة الأخيرة واتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين حماس وإسرائيل – بعد 470 يوما من القصف والقتل والدمار والتهجير – نقطة فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني الحالم بتحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء معاناته المستمرة منذ قرن من الزمن.

في هذه اللحظة، تبدو مسألة الاستثمار الوطني في حرب غزة ونتائجها التحدي الأبرز أمام كافة الأطراف الفلسطينية. ورغم أن وقف إطلاق النار يمنح فترة هدنة مؤقتة لسكان غزة، إلا أن غياب توافق الآراء حول حكم وإدارة غزة بعد الحرب، إلى جانب تعقيدات إعادة الإعمار والتدخلات الأجنبية المحتملة، يلقي بظلال من الشك والغموض على مستقبل المنطقة. هذا خصوصا أن إسرائيل سعت – ولا تزال – إلى تحويل المعركة الأخيرة إلى فرصة لتصحيح “الخطأ التاريخي” الذي ارتكبته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعدم استكمال طرد ومحو الوجود الفلسطيني من أرض فلسطين التاريخية. ويعود ذلك إلى أن الميزان الديمغرافي القائم على أرض فلسطين التاريخية يميل لصالح الفلسطينيين، مما يهدد استقرار المشروع الصهيوني ونموه، وفقا لتحذيرات الباحثون الإسرائيليون في مراكز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي على مدى العقدين الماضيين. هذا التهديد الديمغرافي يفسر السلوك الإسرائيلي الوحشي والفاشي الذي يسعى إلى جعل قطاع غزة بيئة طاردة للحياة، وتهيئة المناخات الحياتية لجعل التهجير مسألة وقت لا أكثر في حياة الفلسطيني. وقد استهدفت إسرائيل بشكل مباشر ومنهجي كافة المنشآت المدنية الحيوية، خاصة المستشفيات والمدارس، وشبكات الطرق والمواصلات، والبنية التحتية، لدفع الفلسطيني نحو التفكير والسعي الجاد للخلاص الفردي بفعل الوقائع التي تفرضها إسرائيل على الأرض.

يقف الفلسطينيون في موقف المتلقي لكل ما يطرح حول مسألة اليوم التالي لحرب غزة، تتنازعهم نعرات الانقسام الذي ساهم في إضعاف الموقف الفلسطيني الجمعي، خاصة مع تآكل ثلاثة مسائل جوهرية قبل الحرب الدائرة وخلالها. الأولى هي مسألة التمثيل الفلسطيني، والذي بات يعاني من ازدواجية واضحة، حيث يتفاوض العالم في مسألة الرهائن ووقف إطلاق النار مع حركة حماس، بينما يتفاوض مع السلطة الفلسطينية في مسألة الترتيبات السياسية في قطاع غزة. أما المسألة الثانية، فهي المرتبطة بالكيانية الفلسطينية، حيث ترفض إسرائيل توحيد الأراضي الفلسطينية بأي شكل من الأشكال عقب الحرب الحالية. وتتعلق المسألة الثالثة بالحركة الوطنية الفلسطينية، التي تعرضت لهزة عنيفة في العقل الجمعي الفلسطيني. فقد فشلت في تقديم نموذج حقيقي لتعزيز صمود المواطنين في قطاع غزة، وتحقيق اللحمة الوطنية بين التجمعات الفلسطينية على مدار أكثر من 15 شهرا من الحرب.

يراقب المواطن الفلسطيني في غزة بتشاؤم كبير ما يحدث معه وحوله، وقد فقدَ تقريبا الثقة في قدرة الطبقة السياسية الفلسطينية والجهات الفاعلة الأجنبية على العبور به إلى بوابة الخلاص الوطني الناجز، وتحقيق الاستقلال الوطني. وبات التشاؤم سمة أساسية من سمات التفكير لدى المواطن الذي يعيش حياة بائسة وقاسية، أفقدته القدرة على التوازن الانفعالي في النظر إلى مستقبله الوطني.

ورغم تعدد الآراء حول مستقبل إدارة وحكم غزة بعد الحرب، والتدخلات المتوقعة من القوى الأجنبية، بما في ذلك إسرائيل، تهدف هذه الورقة إلى تحليل رؤية المواطن الفلسطيني في قطاع غزة لمستقبله السياسي في ضوء إفرازات وتداعيات الحرب الأخيرة. وتستعرض الورقة مختلف الآراء السياسية المتعلقة بتصورات الحكم في الأراضي الفلسطينية، ومدى نجاعة أو قدرة الفلسطينيين على تحويل المحنة الحالية إلى فرصة حقيقة لتحقيق الإنجاز الوطني المأمول والمتمثل في الاستقلال الكامل.

تستند الورقة على مراجعة شاملة للأدبيات والقراءات السابقة حول المستقبل الفلسطيني، بالإضافة إلى مقابلات معمقة مع نخب وكتاب ومفكرين لاستطلاع آرائهم حول هذا المستقبل.

خلفية عامة: الحوكمة في غزة، القضية المهملة

عمّق الدمار الناتج عن الحرب الأخيرة على قطاع غزة من الأزمات القائمة، مما أدى إلى تصدعات كبيرة في البنية التحتية والنسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وجعل المستقبل يبدو أكثر ضبابية وتعقيدًا وغير مهتم بالغزيين. وبينما تقف غزة على مفترق طرق استراتيجي، يواجه سكانها شعورًا متزايدًا بالعجز والإحباط نتيجة استبعادهم من أي دور فعلي في صياغة مستقبلهم، الذي يبدو أنه يُخطط له في دوائر خارجية بعيدة عنهم. تشير نتائج استطلاع أجرته مؤسسة “الباروميتر العربي” عام 2023 إلى أن أكثر من 75% من سكان القطاع يعتقدون أن المجتمع الدولي فشل في تقديم الدعم اللازم لتحسين أوضاعهم نتيجة غياب الجهود الحقيقية لحل الأزمة، واستمرار الحصار المفروض منذ أكثر من عقد ونصف.

سياسيا، تزداد العزلة بين السكان والقيادات المحلية والدولية. فالمشهد الداخلي في غزة يعاني من انقسام حاد بين الفصائل الفلسطينية، حيث يشعر السكان أنهم رهائن لهذا الانقسام الذي يعوق أي محاولات جادة للتغيير. وفي الوقت نفسه، يفتقد الغزيّون إلى أي إشراك حقيقي في القرارات السياسية المتعلقة بمستقبلهم؛ يشعر الكثيرون بأن أصواتهم لا تُسمع، وأن القضايا التي تهمهم تُهمّش لصالح أجندات خارجية تهدف إلى تحقيق الاستقرار الأمني فقط دون اعتبار احتياجاتهم الإنسانية والاقتصادية.

اقتصاديا، تسببت الحرب في انهيار شامل للواقع الاقتصادي في القطاع. حيث وصلت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تجاوزت 80% بين الشباب، وفقًا لتقارير، بينما باتت فرص العمل شبه معدومة. هذه الأزمة الاقتصادية تعكس أيضًا مشاعر الإحباط والعجز بين السكان الذين يجدون أنفسهم عالقين في دائرة من الفقر والاعتماد الكلي على المساعدات الإنسانية.

بالإضافة إلى تداعيات الحرب الجارية على غزة، لا بد من التأكيد على وجود أزمة ثقة بين المواطن الفلسطيني ونظامه السياسي. هذه الأزمة تلقي بظلالها على رؤية الفلسطينيين وتصوراتهم لمستقبل غزة، وتتعدد أسبابها، ومنها:

  1. التاريخ السياسي المضطرب: منذ الانقسام الفلسطيني في عام 2007، شهدت فلسطين مرحلة غير مسبوقة من التشرذم الجغرافي والمؤسسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. لم يكن هذا الانقسام مجرد انشقاق سياسي عابر، بل تحول إلى حالة هيكلية مستدامة أضعفت النظام السياسي الفلسطيني وأثرت بعمق على كافة جوانب الحياة اليومية. أصبحت غزة كيانًا منعزلًا تمامًا، مما أفسح المجال لظهور سلطتين منفصلتين، لكل منهما أجندتها السياسية والإدارية. انعكس هذا الانقسام على الثقة الشعبية، حيث شعر الفلسطينيون بأن القيادات السياسية ركزت على صراعاتها الداخلية بدلاً من التصدي للتحديات الوطنية الكبرى. مع مرور الوقت، تحولت هذه الحالة إلى واقع مأساوي يعزز الشكوك الشعبية في قدرة القيادة على إعادة الوحدة الوطنية وتحقيق الأهداف المشتركة.
  2. تآكل الشرعية السياسية: شكل غياب الانتخابات الفلسطينية منذ عام 2006 ضربة عميقة لمفهوم الشرعية السياسية في الأراضي الفلسطينية. في ظل غياب أي عملية انتخابية تعكس إرادة الشعب، ترسخ شعور واسع النطاق بين الفلسطينيين بأن القيادة السياسية لم تعد تمثلهم. أدى ذلك إلى إحباط كبير بين المواطنين الذين يرون أن النظام السياسي قد تحول إلى وسيلة لتكريس المصالح الفصائلية بدلاً من خدمة المصلحة الوطنية. وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة الباروميتر العربي الثامنلعام 2024، أعرب 60% من سكان غزة عن عدم ثقتهم بالقيادة السياسية. هذه النسبة العالية تعكس حالة من الإحباط الجماعي والتراجع الحاد في الثقة بقدرة النظام على تلبية تطلعات الشعب…
يمكن قراءة المقال الكامل على موقع مبادرة الإصلاح العربي