من المُبكر بعض الشيء اتّضاح النتائج الفعلية والحقيقية لزيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الى السعودية. فالتفاهمات الحقيقية لا يجري الاعلان عنها في البيانات الرسمية والمواقف المعلنة. لكن ثمّة اشارات تسمح بالخروج باستنتاجات مفيدة، أولاها تتعلق بمشاركة رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي وهو الذي يعتبر بمثابة المساحة المشتركة بين الاميركيين والايرانيين في العراق. والمنطق يقول انه لا بد ان يكون الكاظمي قد وضع طهران في الاجواء الحقيقية لكواليس القمة. وفي الوقت نفسه لم تصدر ايران او حتى حلفاءها في العراق أي ردود فعل أمنية لتشكل رسائل اعتراض او غضب.
ثاني هذه الاشارات التي يمكن التعويل عليها تتعلق بكلام رئيس الامارات الشيخ محمد بن زايد الذي اعلن عن قُرب اعادة السفير الاماراتي الى طهران، وقد استتبع كلامه هذا بدعوة علنية من الرئيس الاميركي له لزيارة رسمية لواشنطن قبل نهاية العام الجاري وهو ما يوحي بأنّ واشنطن تؤيّد تبريد الاجواء مع ايران في المرحلة الراهنة. وثالث هذه الاشارات الكلام القطري حول حق الدول بامتلاك الطاقة النووية ولكن لأغراض سلمية. ورابع هذه الاشارات الكلام السعودي حول دعوة إيران للتفاهم والتعاون.
كل تلك الاشارات توحي بأن المحور الجديد الجاري تشكيله والذي من المفترض ان يكون عنوانه مواجهة ايران، إنما يتجه في المرحلة الراهنة الى التبريد لا الصراع. وفي قراءة اكثر تدقيقاً، بأنّ الاجواء توحي بأنها لاستباق صفقة اميركية مع ايران بدليل كلام الرئيس الاميركي ولو جاء بعبارات نافرة حين قال انّ بلاده لن تدع ايران تمتلك السلاح النووي ابداً.
وبعيداً عن صيغة هذا الكلام الا انّ مضمونه يعني بأنّ الاتفاق النووي الذي تم التفاهم حول كامل بنوده التقنية هو حَتمي في نهاية المطاف.
هذا الاتفاق الذي توقّف بسبب تمسّك الادارة الاميركية بعدم رفع العقوبات عن الحرس الثوري، والمقصود هنا فيلق القدس تحديداً.
ذلك انّ هذا الفيلق هو المسؤول المباشر عن أذرع ايران كافة في المنطقة، وثمة مقاربة راجَت كثيراً في الفترة الاخيرة في دول الخليج وتقول: ايران نمر من كرتون لكن لديها مخالب من فولاذ.
والمقصود هنا بأنّ ايران بحد ذاتها تعاني نقاط ضعف كثيرة لكنّ اوراق قوتها هي بالتنظيمات الموالية لها في المنطقة كـ»حزب الله» والحوثيين والحشد الشعبي وحركة حماس…
وبالتالي، فإنّ رفع العقوبات عن فيلق القدس اصبح خارج اي طرح وهذه المسألة لن يمررها الكونغرس الاميركي، وكيف اذا كانت التوقعات تشير الى عودة الاغلبية الى الجمهوريين بعد الانتخابات النصفية.
وهذه حقيقة لا شك انّ طهران تعرفها حق المعرفة وهي التي تعرف ايضاً انّ الادارة الاميركية تغضّ النظر عن الصادرات النفطية الايرانية بالطرق الملتوية ولا تتحرّك لمنعها، لأنها لا تريد الذهاب الى النهاية، بل انها تسعى لتدوير الزوايا لتأمين الصفقة لاحقاً.
في المقابل فإنّ حسابات ايران قد تكون مرتكزة على امتلاك ورقة قوة بديلة عن موضوع رفع العقوبات عن فيلق القدس. وتُفضي هذه الورقة بالامتناع مرحلياً عن الذهاب الى اتفاق نووي وفق الشروط الحالية طالما انها قادرة على ان تتنفس اقتصادياً من خلال «تهريب» مبيعات النفط، وان تستغل الوقت للوصول الى مرحلة التخصيب النووي، عندها تكون قد امتلكت ورقة قوة تسمح لها بالذهاب من موقع أقوى الى الاتفاق النووي.
إذاً هي لعبة وقت واستنفاد الخيارات وربما الأجدى هو بالتركيز على كيفية ترتيب الساحات التي تحتضن اذرع ايران او «أظافرها الفولاذية» واعادة ترتيبها بما يتلاءم مع صورة المرحلة.
الرئيس الاميركي كان قد ودّع مراحل الحروب في الشرق الاوسط، والاهم اعلان التزامه بمنع حصول اي فراغ في ساحات الشرق الاوسط ستعمل على مَلئه الصين وروسيا وايران.
صحيح ان الرئيس الروسي سيزور طهران لكن ثمة ما هو اهم واكثر دلالة قد استبقه وهو باتجاه السودان الى رفض طلب موسكو بإنشاء اول قاعدة بحرية لها في افريقيا على البحر الاحمر، والذي يشكل اكثر الممرات المائية ازدحاماً في العالم، حيث يمر حوالى 30 % من حركة الحاويات في العالم.
في المقابل، ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» ان وزير الدفاع الاسرائيلي أطلع الرئيس الاميركي، خلال لقائه، على اتفاقات امنية أبرمتها اسرائيل مع دول عربية لم تكن طرفاً في اتفاقيات ابراهيم. واعلان بايدن بأنّ واشنطن لن تنسحب من الشرق الاوسط يَطال المجال العسكري من دون ادنى شك، ولكنه يطال الدور السياسي وهو النقطة الاهم.
فمنذ وصول بايدن الى البيت الابيض غابت المبادرات الاميركية عن المنطقة وغاب معها الدور الفاعل والناشط، وهو ما أنتج فراغاً هائلاً دفعَ بدول الخليج الى البحث عن قوة عالمية تملأه مثل روسيا والصين.
وهو ما يعني انّ الديبلوماسية الاميركية ستعود بقوة مع افكار جديدة وقوة دافعة باتجاه الساحات المفتوحة مثل اليمن والعراق وسوريا وبالتأكيد لبنان، الذي جرى تخصيصه بمقطع كبير في البيان الختامي وبشكل فاقَ التوقعات.
وفي الكواليس الديبلوماسية المعنية هَمس بقرب تحرّك اميركي من خلال القنوات الديبلوماسية باتجاه لبنان وبشكل اكثر فعالية.
وترجّح هذه الاوساط ان تكون هذه الحركة منسقة جيداً مع الفرنسيين ويكون الفاتيكان في اجوائها، وانّ هناك استحقاقين داهمين في هذا الاطار.
الاول إنجاز الترسيم البحري خلال الاسابيع القادمة طالما انه جرى تفكيك معظم العقد والخلافات التي كانت موجودة.
ولا تستبعد هذه الاوساط انه في حال انجاز التفاهم حول الترسيم البحري ان تزور لبنان مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط بابرا ليف لرعاية انجاز اتفاق الترسيم البحري، وايضاً للدفع في ملف استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية التي فتحت صفحاتها، ولو انّ حصولها في مواعيدها الدستورية ما يزال غير مضمون.
صحيح انّ باريس وواشنطن والبيان الختامي لزيارة بايدن يشددون على ضرورة إتمام هذه الانتخابات في مواعيدها الدستورية، الا انّ هذه الدعوات تفتقر من اي عقوبات قد تطال من سيعتبرون مُعرقلين، اضف الى ذلك انّ التعقيدات الهائلة والحسابات الصعبة التي تحيط بهذا الاستحقاق لا تجعله قابلاً للحل بسلاسة وبمجرد الالحاح بالدعوة لحصوله في موعده.
الحسابات أعمق، ومن غير الواقعي ان يجري تأمين هذه الولادة من دون ان يسبقها تسوية سياسية تتضمن بروتوكولا سياسيا وميدانيا لمرحلة اعادة استنهاض لبنان وتثبيت توازنات داخلية جديدة.
لكنّ بوادر التسوية لم تظهر بعد، ما يطرح العديد من علامات الاستفهام، وانها من المفترض ان تجمع ما بين «ضبط» احد اهم «المخالب الفولاذية» لإيران في مقابل تأمين الضمانات المطلوبة واعادة بناء الثقة مع الدول التي ستتولى ضَخ الاموال والاستثمارات في شرايين الاقتصاد اللبناني، مع الاشارة الى انّ تغيير النظام السياسي في لبنان غير وارد بتاتاً.
وفي آخر استطلاع أجرته مؤسسة الباروميتر العربي الاميركية والذي شمل 9 دول عربية وطالَ 23 الف شخص، واستمر من تشرين الاول 2021 وحتى نيسان 2022 بالشراكة مع شبكة بي بي سي نيوز عربية. وبالمقارنة مع دول المنطقة الاخرى، يرى اللبنانيون وضعهم الحالي بمنظار اكثر تشاؤمي، فصنّفوا وضعهم الاقتصادي أسوأ بكثير من اية دولة اخرى، كما ظهر انهم الاقل تفاؤلاً بمستقبلهم الاقتصادي اذا اعتبر 17 % فقط بأنه سيتحسّن خلال السنوات المقبلة، فيما تراوحت النسبة بين 24 % و61 % في جميع الدول الاخرى.