بينما يواصل الجزائريون الاحتجاج السلمي للأسبوع الـ39 على التوالي طلبا لتغيير نخبة الحكم ولإنهاء الفساد، تحولت الساحات في عديد المدن العراقية واللبنانية إلى نقاط تجمع لمواطنين يبحثون عن بدائل لحكومات طائفية وقوى سياسية فاسدة عجزت عن تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الأغلبية. وقد تواكبت مع بدء احتجاجات الجزائريين وسبقت تظاهرات العراقيين واللبنانيين انتفاضة شعبية في السودان تمكنت من إزاحة الحاكم المستبد (عمر البشير) ودفعت البلاد إلى مرحلة انتقالية يتقاسم بها العسكريون السلطة مع القوى المدنية ويؤسس بها دستوريا وسياسيا للتحول الديمقراطي. خلال الأسابيع الماضية، شهدت بلدان عربية أخرى كالأردن ومصر احتجاجات محدودة رفعت بها مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة.
ولكون العرب قد عاودوا الخروج إلى الشارع في 2019، فإن التساؤلات بشأن مسارات المشهد الإقليمي وحول ما إذا كنا نشهد موجة ثانية من ربيع الانتفاضات الديمقراطية 2011 صارت في واجهة النقاش العام. في 2011، تحرك المواطنون ـ بعيدا عن القوى السياسية والحزبية والنقابية ـ في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين لإدخال تغييرات ديمقراطية وإزاحة حكومات تنتهك الحقوق والحريات ولا تقبل المساءلة وإحلال حكومات منتخبة ونزيهة محلها. غير أن ربيع الانتفاضات 2011، وباستثناء النجاح التونسي في بناء إطار دستوري وسياسي للتحول الديمقراطي في ظروف اقتصادية واجتماعية بالغة الصعوبة، لم يسفر عن انتصارات حقيقية للشعوب. فبسبب عنف المستبدين في ليبيا وسوريا واليمن واستعدادهم لممارسة القتل الجماعي لإخضاع المواطنين المحتجين ورفضهم إن للتخلي عن السلطة سلميا أو لفتح الأبواب لإصلاحات ديمقراطية، آلت الأمور إلى أنهار من الدماء وحروب أهلية ودمار مؤسسات الدولة والمجتمع. أما في مصر والبحرين، فقد انتهت انفراجات سياسية قصيرة الأمد إلى عودة الحكم السلطوي وانتهاكات الحقوق والحريات على نحو أسوأ مما كان عليه الحال قبل 2011.
رتبت النتائج المرحلية لانتفاضات 2011 تراجع الطلب على الديمقراطية والحكومات المسؤولة لدى الشعوب. وبحلول 2013، عادت الأغلبيات العربية، إن على وقع الإرهاق الجماعي من الاحتجاج والتظاهر أو خوفا من مآلات العنف والحروب الأهلية والدمار، إلى مواقع قبول المقايضة السلطوية للحكومات: الخبز والأمن نظير الخضوع لحكام لا يحاسبون. أسفر صعود المقايضة السلطوية عن تحولين جوهريين في إقليمنا؛ من جهة مغادرة المواطنين الجماعية للشارع، ومن جهة أخرى نزع شرعية القبول الشعبي عن الاحتجاج السلمي وطلب الديمقراطية بمرادفتهما بالفوضى والدمار.
ولكي تقضي على احتمالات تكرر ربيع 2011 مرة أخرى وتضمن بقاء سلطاتها دون كثير تنازع أو تنغيص، مررت الحكومات العربية قوانين «أورويلية» لجعل انتهاك الحقوق والحريات هو القاعدة وليس الاستثناء ووسعت صلاحيات واختصاصات الأجهزة الأمنية للضغط المستمر على حركات المعارضة ودعاة الديمقراطية ولوأد الاحتجاجات الشعبية في مهدها. شرعت الحكومات أيضا في منح المزيد والمزيد من الموارد المحدودة للحلفاء في بيروقراطية الدولة الفاسدة وبين نخب الأعمال، وضخت الأموال على نحو غير مسبوق في قطاعات الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي للسيطرة المباشرة عليها لتشويه الفكرة الديمقراطية وادعاء عدم ملاءمتها للبلدان العربية ولطرح الحكام السلطويين وأعوانهم «كقادة الضرورة» الذين يستحيل إيجاد بدائل لهم.
الحكومات السلطوية والطائفية تظل حكومات عاجزة عن إنهاء أزمات البطالة والفقر ويظل الفساد ديدنها وبقاؤها في السلطة غايتها النهائية
على الرغم من كل ذلك، تجددت مع خواتيم 2018 وبدايات 2019 المواجهات بين الحكومات والمواطنين المطالبين بالتغيير في بلاد العرب على نحو أثار الشكوك بشأن مستقبل المقايضة السلطوية وفرص استمرار نجاحها في تهجير الناس بعيدا عن الشارع والساحات العامة. اليوم، وعلى وقع الاحتجاجات في الجزائر والعراق ولبنان وبعد النجاح المرحلي للانتفاضة الديمقراطية في السودان، يهتز استقرار قوانين وسياسات وممارسات «الإخضاع السلطوي» التي أريد لها أن تكون الحقائق المؤطرة لحياة العرب ووجود مجتمعاتهم في القرن الحادي والعشرين. تشتعل الاحتجاجات مدفوعة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية لبلداننا التي تعاني، باستثناء بعض دول الخليج، من بطالة مزمنة وفقر قطاعات واسعة من السكان وفجوات رهيبة في الدخل وفرص التعليم والرعاية الصحية والحياة الكريمة بين الأقليات ميسورة الحال والأغلبيات الفقيرة. تشتعل الاحتجاجات مدفوعة بشيوع التقييمات السلبية بين المواطنين فيما خص قدرة الحكومات على مواجهة الأزمات المزمنة والقضاء على الفساد الذي ينخر عظام بيروقراطية الدولة والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية ـ علما بكون العجز عن مواجهة أزمات البطالة والفقر وغيرها والعجز عن القضاء على الفساد يعتاشان على بعضهما البعض.
تدلل استطلاعات الرأي العام التي يجريها مرصد «الباروميتر العربي» (تديره جامعة برنيستون الأمريكية) على أن النمو الاقتصادي وتحسين الظروف المعيشية ورفع مستويات الخدمات العامة ومواجهة الفساد هي أولويات الأغلبيات العربية دون منازع، فهي أولوية 79 بالمائة من السودانيين و81 بالمائة من الجزائريين و56 بالمائة من العراقيين و73 بالمائة من اللبنانيين. وتدلل الاستطلاعات أيضا على أن الأغلبيات العربية فقدت أو كادت تفقد ثقتها في قدرة الحكومات على إحداث تغيرات إيجابية فيما خص هذه الأولويات، وتتراوح معدلات انعدام الثقة الشعبية في الحكومات بين 70 بالمائة في السودان و90 بالمائة في الجزائر وبين 87 بالمائة في العراق و81 بالمائة في لبنان. وبينما تركزت مطالب المواطنين المحتجين في السودان على إنهاء الحكم السلطوي المستند إلى المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية ويسير الجزائريون اليوم على النهج ذاته، يبحث العراقيون واللبنانيون عن إزاحة نخب طائفية وفاسدة تتعامل مع المجتمعات ومواردها كمادة لاقتسام الغنائم وتوزيع العوائد واقتسام السلطة وتنزع عن الأطر الدستورية والقانونية كل محتوى ديمقراطي ولا تمانع في إطلاق الميليشيات المسلحة على المواطنين لإرهابهم.
في 2019، يتزعزع مجددا استقرار قوانين وسياسات وممارسات «الإخضاع السلطوي» في بلاد العرب ويعاود المواطنون الخروج إلى الشارع طلبا لتحولات ديمقراطية لها أن تأتي بحكومات غير فاسدة ربما تنجح في مواجهة الأزمات المزمنة التي تثقل كاهل الأغلبيات منذ عقود طويلة. في 2019، تنفتح أبواب التغيير في بلاد العرب لأن قطاعات واسعة من السكان اقتنعت أن الحكومات السلطوية والطائفية تظل حكومات عاجزة عن إنهاء أزمات البطالة والفقر ويظل الفساد ديدنها وبقاؤها في السلطة غايتها النهائية. ومع شيوع هذه القناعة وانتقالها من السودان والجزائر إلى العراق ولبنان، وربما منها إلى بلدان أخرى، يصير الطلب على الديمقراطية والحكومات المسؤولة والنزيهة مرادفا للأمل في أوضاع اقتصادية واجتماعية أفضل وفي احترام للحقوق والحريات وتقوض تدريجيا الرابطة السببية المخادعة التي أنتجتها الحكومات السلطوية بين الديمقراطية وأخطار الفوضى والدمار.