يشيد البعض بالإنترنت بصفتها قوة دافعة على طريق المساواة، بسبب قدرتها على توسيع الفرص في شتى قطاعات المجتمع، والتعجيل بالصعود الاجتماعي، وإعطاء صوت ومنصة للفئات المهمشة. لكن رغم عقود من تزايد انتشار الإنترنت، وانتشار الهواتف الذكية على نطاق عريض، وتوسع ثقافة الإنترنت، فلا تزال أوجه انعدام المساواة في العالم العربي واضحة وبارزة، ويُقدّر البعض أن اللامساواة قد زادت واشتدت. تشير البيانات الواردة من أحدث دورات استطلاع الباروميتر العربي إلى أن معدلات استخدام الإنترنت تختلف كثيراً باختلاف الفئات السكانية. لدى تثبيت بعض المتغيرات التي قد تؤدي إلى التباس في فهم النتائج، يتبين أن الفئات التي تعاني أكثر من غيرها في المجتمع، مثل النساء والمسنين والأقل تعليماً والأقل دخلاً، هم أقل قابلية لاستخدام الإنترنت مقارنة بالذكور والشباب والأفضل تعليماً والأعلى دخلاً. هذه النتائج الواردة من 12 دولة عربية هي بمثابة إضافة إلى الأدلة التي تُظهرأنه رغماً عن إمكانية الإنترنت تخفيف بعض المشكلات المجتمعية، فإن التفاوت في معدلات استخدام الإنترنت بحسب الفئات السكانية أو على امتداد التقسيمات الاجتماعية-الاقتصادية، يمكن في حقيقة الأمر أن يفاقم من اللامساواة ويسهم في انقسام رقمي مقلق.
المعدلات العامة لاستخدام الإنترنت
تُعرّف الأدبيات عموماً الانقسام الرقمي بصفته الفجوة بين فئات المجتمع “فيما يتعلق بفرصها في الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، واستخدامها للإنترنت“. ومع تزايد اعتماد المجتمع على التكنولوجيا والإنترنت، فإن من يفتقرون إلى المعرفة الرقمية والقدرة على الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يواجهون تحديات أكبر، بل وإقصاء واضح، فيما يتعلق بالاندماج بالاقتصاد والمجتمع المعتمدين بشكل متزايد على التكنولوجيا الرقمية. تتباين كثيراً نسبة المواطنين غير المتعاملين مع الإنترنت من بلد لبلد في شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث “غير المتعاملين مع الإنترنت” هنا تعني أولئك الذين لا يستخدمون الإنترنت مطلقاً و”المتعاملين مع الإنترنت” تشير إلى من يستخدمون الإنترنت بأي شكل، ولو حتى مرة في الشهر.
وليس الانقسام في شتى أنحاء المنطقة داخل الدول فقط، إنما هو بين الدول أيضاً. في الكويت، وهي من أغنى دول العالم، قال 3 بالمئة فقط إنهم لم يستخدموا الإنترنت مطلقاً. هذا غير مثير للدهشة نظراً لأن في الخليج العربي واحدة من أعلى نسب انتشار الإنترنت في العالم، وتتجاوز مثيلاتها في الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف دول غرب أوروبا. وفي الوقت نفسه، تُعد نسب المواطنين غير المتعاملين مع الإنترنت منخفضة نسبياً أيضاً في دول المشرق؛ فأقل من مواطنين اثنين من كل عشرة مواطنين في لبنان (12 بالمئة) وفي الأردن (16 بالمئة) وفلسطين (17 بالمئة) يقولون إنهم لم يستخدموا الإنترنت مطلقاً. وعلى النقيض، فإن نحو ربع المبحوثين في العراق (24 بالمئة) وليبيا (26 بالمئة) والسودان (28 بالمئة) لا يتعاملون مع الإنترنت، في حين أن أكثر من 3 من كل 10 أشخاص في المغرب (31 بالمئة) والجزائر (32 بالمئة) وأكثر من 4 من كل 10 في تونس (41 بالمئة) ومصر (42 بالمئة) يقولون ذلك. الأجدر بالملاحظة، أن في اليمن، وهي من أفقر دول العالم، تبلغ نسبة غير المتعاملين مع الإنترنت تقريباً نسبة المتعاملين مع الإنترنت (47 بالمئة مقابل 53 بالمئة على التوالي).
هناك عدة عوامل أخرى إلى جانب الثروة قد تسهم في التباين في استخدام الإنترنت عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مع دخول اليمن عامه الخامس من النزاع الأهلي، يواجه المواطنون هناك قصوراً في الإنترنت ومشكلات في الوصول للشبكة بسبب تدهور البنية التحتية والرقابة والحجب بدوافع سياسية. على النقيض، من 2014 إلى 2018 زاد في كل من المغرب وتونس انتشار إنترنت الهواتف الخلوية بنسبة 15 و18 بالمئة لكل منهما. لكن وراء هذه التفاوتات على مستوى الدول، هل هناك أيضاً عوامل على مستوى الفرد وراء بعض التباين المشهود في انتشار استخدام المواطنين للإنترنت في العالم العربي؟
العوامل وراء التباين في استخدام الإنترنت: السن والنوع والتعليم والدخل
تُظهر التقسيمات البسيطة للبيانات أن ثمة متغيرات رئيسية عديدة عبر المنطقة – مثل السن والنوع والتعليم والدخل وطبيعة المسكن (ريف، حضر، مخيمات لاجئين) – مرتبطة باستخدام الإنترنت. لكن هذه التقسيمات لا تفسر التفاعلات بين المتغيرات المختلفة. فعلى سبيل المثال، السكن بالحواضر مرتبط بدرجة أعلى بارتفاع مستويات التعليم. عمل نموذج انحدار بين المتغيرين المذكورين يساعد في التصدي لهذه المشكلة وفي عزل المتغيرات الأكثر ارتباطاً باستخدام الإنترنت، وهذا من خلال تثبيت متغيرات رئيسية أخرى في الوقت نفسه.
لم تكن من النتائج المدهشة أن الأكبر سناً في شتى الدول المشمولة بالاستطلاع أقل إقبالاً على استخدام الإنترنت. على سبيل المثال، وفي المتوسط، فإن المصري المتدين البالغ من العمر 30 عاماً ولديه قسط أساسي من التعليم، تبلغ نسبة كونه مستخدماً للإنترنت 52 بالمئة، مقارنة بـ 32 بالمئة إذا كان عمره 40 عاماً. بمعنى آخر، مع تساوي كافة المتغيرات الأخرى، فإن التقدم في العمر 10 أعوام يعني التراجع في احتمال أن يكون المرء مستخدماً للإنترنت بواقع 58 بالمئة. قد يكون السبب وراء هذا التوجه تحفظ البالغين الأكبر سناً فيما يخص التعامل مع تقنيات جديدة، وقلة الثقة في قدرتهم على استخدامها بنجاح، أو لأن هذه التقنيات الجديدة عادة ما تكون غير مصممة بشكل يراعي احتياجات المستخدمين الأكبر سناً. تُظهر بيانات الباروميتر العربي أن هذا الانقسام الرقمي في بلدان عديدة بين البالغين الأصغر سناً (18-29 عاماً) والأكبر سناً (60+) هو انقسام حاد. هذه الفجوة الجيلية تبلغ أقصاها في حالة المصريين الشباب، الذين يستخدمون الإنترنت بنسبة تبلغ 82 بالمئة أكثر من المصريين في سن 60 عاماً فأكبر. بالمقارنة، فإن الشباب في الكويت يستخدمون الإنترنت بنسبة تفوق الكويتيين الأكبر سناً بـ 20 بالمئة.
يظهر في حالة الانقسام الرقمي على أساس من نوع الجنس اختلال مشابه. مع تثبيت المتغيرات الأخرى، نجد أن هناك تراجع في احتمال كون المرء مستخدماً للإنترنت بواقع 56 بالمئة، إذا كان امرأة، مقابل أن يكون رجلاً. تواجه النساء عقبات كبرى تعترض طريق المشاركة الكاملة في المجال الرقمي، وهذه المعوقات لا تختلف كثيراً عن معوقات في مجالات أخرى. في واقع الأمر، فهي بتأثير من ظواهر حقيقية، وهي ممثلة لها. القيم الاجتماعية والأدوار الجندرية والتحيزات والتنميطات الخاصة بالنوع كثيراً ما تثبط عزم النساء عن – أو تمنعهن من – استخدام الإنترنت، واكتساب المعرفة الرقمية، والمشاركة في الاقتصاد والمجتمع الرقميين. طبقاً للاتحاد الدولي للاتصالات، لدى المقارنة مع مناطق العالم الأخرى، يظهر أن الفجوة بين الرجال والنساء في انتشار الإنترنت تبلغ أقصاها في الدول العربية. هذه التفاوتات، إذا وضعناها في سياق أداء المنطقة فيما يتعلق بتضييق الفجوة بين الجنسين، وهو الأسوأ على مستوى العالم، ترسم صورة مقلقة للوضع الراهن.
إضافة إلى السن والنوع، فإن التحصيل التعليمي ومستوى الدخل عاملان مهمان أيضاً. مع تراجع مستويات التعليم والدخل، تتناقص احتمالات أن يكون المرء متعاملاً مع الإنترنت. من الجدير بالملاحظة أنه رغم أن النظرة الأولى على التقسيمات البسيطة للبيانات تُظهر وجود صلة بين مكان سكن المبحوثين واستخدامهم للإنترنت، فإن هذا التحليل يُظهر أن هذا التوجه سببه آثار متغيرات مرتبطة بمكان السكن، مثل مستوى التعليم والدخل.
تحديات الوصول إلى حل
إن تبيّن أوجه اللامساواة في استخدام الإنترنت وتقرير أي فئات سكانية هي التي يمكن أن تستفيد من تدخلات محددة الهدف، لهو أمر ضروري لكنه غير كافي، في الوصول إلى الشمول الرقمي الكامل. إضافة إلى المعوقات التي تعترض وصول الفئات المهمشة إلى الإنترنت واستخدامها، كثيراً ما تكون هذه الفئات أكثر هشاشة مقارنة بالفئات الأخرى، حال استخدامها للإنترنت. وفي شتى أنحاء العالم، يُعد الأكبر سناً هم الأكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا للاحتيال على الإنترنت، والنساء أكثر عرضة للأذى عبر الإنترنت بفارق 27 مرّة قياساً إلى الرجال. كما أظهرت الدراسات أن الأقل نصيباً من التعليم والدخل هم الأكثر إقبالاً على تصديق المعلومات المغلوطة المُقدمة عبر الإنترنت والأكثر نشراً لها. مع انتشار الأنباء الملفقة عبر مختلف الوسائط وحملات بث المعلومات المغلوطة والتشهير والتحرش الجنسي عبر فضاءنا الافتراضي، فمن الواضح أن المعرفة بالإعلام والوعي بالخصوصية هي ركن أساسي من أركان الاستخدام الصحي للإنترنت. كما استقر بنا المقام على مستوى العالم على ضرورة الموازنة بين تهديدات الإنترنت وفوائدها، فعلينا أن نضمن توفر فرصة متساوية للفئات السكانية الهشة للاستفادة من تلك الفوائد دون تحمل عبء إخفاقات وأوجه ظلم الإنترنت.في ذلك الحين، سوف نعتبر أن جهودنا لسد الفجوة الرقمية كللت بالنجاح.
دانيلا راز طالبة دراسات عليا في جامعة ميشيغان تدرس في كلية الإعلام.