لقد عاد العنف الأسري إلى دائرة الاهتمام بالمجال العام في شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب جائحة كوفيد-19. من ثم، فقد تمثل هذه الأزمة فرصة لتحويل العنف الأسري من شأن خاص إلى قضية عامة في الدول العربية، مع إتاحة فرصة لإصلاح العلاقات الجندرية غير المتساوية عبر القضاء على الأعراف والمعايير الجندرية المجحفة والمتجذرة.
مشكلة تاريخية
لطالما كان العنف الأسري مشكلة حرجة في المنطقة من قبل ظهور جائحة كوفيد-19. ففي نحو 15% من الأسر بالمنطقة نجد حالات العنف الأسري، بحسب استطلاع الباروميتر العربي الذي تم في الفترة 2018-2019. العنف العائلي منتشر بدرجة عالية نسبياً في اليمن (26%) والمغرب (25%) ومصر (23%) في حين أن معدلات إبلاغ المبحوثين عن وقائع العنف تصل أدناها في كل من ليبيا (7%) والأردن ولبنان وتونس (6% في كل من الدول المذكورة).
يمكن أن يستهدف العنف الأسري الرجال أو النساء، وتختلف النسب من بلد إلى بلد. في البيوت التي تشهد عنفاً أسرياً، نسبة تقارير العنف الأسري ضد ضحايا إناث تبلغ 82% في لبنان، و72% في مصر، و71% في المغرب، وتبلغ في الجزائر 66%. في المقابل، تبلغ نسبة تقارير العنف الأسري ضد ضحايا إناث في ليبيا 34% وهي 30% في اليمن.
الثقافة الأبوية التقليدية
مثل فيروس كوفيد-19، فإن العنف القائم على النوع الاجتماعي يؤثر على النساء من جميع الخلفيات. إلا أن الوضع مؤسف بصفة خاصة في المنطقة العربية بسبب الثقافة الأبوية المترسخة. على سبيل المثال فإن أغلب الرجال (70%) بالمنطقة يقولون إن الأزواج – لا الزوجات – هم من يجب أن يكون لهم القول الفصل في القرارات الأسرية، بحسب استطلاع الرأي العام الذي أجراه الباروميتر العربي العام الماضي. كما أن الكثير من النساء بالمنطقة يؤيدن هذه المقولة. في 6 من بين 12 دولة مشمولة بالاستطلاع، ترى أكثر من نصف النساء أن الزوج هو من يجب أن يكون صانع القرار الأول والأخير. هذا الاعتقاد متسق مع العقليات المتحيزة ضد المرأة والهيمنة الذكورية، ما يؤدي إلى زيادة احتمالات وقوع العنف ضد النساء.
اختيارات زائفة
في الوقت الحالي، مع استمرار الحجر في دول كثيرة، عادة ما تقضي الضحايا أوقات أطول في نفس البيت مع المعتدين، وتزيد حالات الأذى الموجه ضد النساء. في مواجهة هذه الظروف، فإن النساء المعرضات للخطر يعانين من مأزق صعب: إما أن يبقين في البيت ويعانين على يد الجناة، أو أن يهربن دون ضمانة بنتائج آمنة في خضم الجائحة. لكن هذين الخيارين يمثلان في نهاية المطاف اختيارات زائفة. فالمشكلة الرئيسية هي أن الحكومات العربية لم تنجح حتى الآن في إعلاء أولوية صحة النساء وحمايتهن في سياق تخطيط التعامل مع الأزمات والطوارئ. هناك أماكن آمنة قليلة – إن وجدت – للنساء اللائي يعانين من الأذى يمكنهن الاحتماء بها، في حين أن الشرطة والمراكز الطبية غير مجهزة لاستيعاب هذه الحالات. على الجانب الآخر، فإن منظمات المجتمع المدني التي تناضل من أجل حقوق المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحاول سد هذه الفجوة، في ظل التكيف مع السبل البديلة التي تراعي قيود التباعد الاجتماعي في الآونة الأخيرة. تشمل هذه السبل إتاحة الخطوط الساخنة، وخدمات المشورة عبر الإنترنت والهاتف، وتوصيل الضحايا بمحامين، وتوفير مأوى مؤقت، وإطلاق حملات التوعية. لكن لا تزال نساء كثيرات لا يلجأن إلى منظمات المجتمع المدني لطلب المساعدة.
شأن عائلي خاص
ما يفاقم من المشكلة أن العنف الأسري لا يزال يعتبر شأناً عائلياً خاصاً في مختلف الدول العربية. فالاستطلاع الذي أجراه الباروميتر العربي في الفترة 2018-2019 يُظهر أن أغلب النساء ضحايا العنف بالمنطقة (88%) يلجأن إلى قريبات أو أقارب لهن طلباً للمساعدة. هناك قلة قليلة من النساء بالمنطقة (12%) يفكرن في تقديم الشكوى للشرطة المحلية بسبب هذا العنف. يختلف لبنان هنا، حيث قالت نحو نصف النساء ضحايا العنف إنهن يبلغن الشرطة المحلية بالعنف الأسري (49%). يؤشر هذا بأنه في حال توفُّر قوانين ضد العنف الأسري فهي ليست نافذة على نطاق واسع في كل الحالات، مع إعفاء الجناة من العقاب على أفعالهم. كما أن قلة من النساء المعرضات للتعنيف (6%) في المنطقة يلجأن للمستشفيات لطلب النجدة، في حين لا تلتمس أي نساء معرضات للعنف تقريباً المساعدة من المنظمات المحلية، بحسب الاستطلاع. لقد سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على قصور التدابير الداعمة التي تستعين بها السلطات العربية في حماية الناجيات من العنف، حتى من قبل انتشار الوباء.
تحويل الأزمة إلى فرصة
تتيح أزمة كوفيد-19 الفرصة للدول العربية لأن تحوّل العنف الأسري من شأن عائلي خاص، إلى قضية عامة. حتى 2019، كانت ست دول فقط بالمنطقة قد أصدرت قوانين لمكافحة العنف الأسري. بحسب ناشطات محليات معنيات بحقوق المرأة، وهيومن رايتس ووتش، فإن هذه القوانين بها ثغرات كثيرة تقوض من فعاليتها في ردع الجناة عن إلحاق الضرر بالنساء. كحل قصير الأجل، على السلطات بالدول العربية أن تتصدى بشكل قوي وحازم للعنف الأسري بصفته أزمة صحة عامة. عليها توطيد التعاون بين الشرطة ونظام العدالة الجنائية والقطاع الصحي ومنظمات حقوق المرأة المحلية، لتوفير الإغاثة الفورية والدعم الكافي للنساء الناجيات من العنف. وعلى المدى البعيد، فمن المعوقات الكبرى الأخرى المطلوب التغلب عليها، قوانين الأحوال الشخصية التمييزية في الدول العربية. إذا لم يتم إصلاح هذه القوانين وأعيد ضبط الأدوار الجندرية بما يحقق المساواة، فسوف يستمر العنف الأسري وسوف تبقى الضحايا من النساء العربيات غير مستعدات لطلب المساعدة خارج نطاق الأسرة.
نشرت هذه المدونة من طرف موقع “درج” الإعلامي.