لم تكن تعليقات رئيس الوزراء الإسرائيلي بينجامين ناتنياهو أثناء الخطاب الذي أدلى به أمام الكونغرس الأمريكي التي خَلَطَ فيها الدعم الذي تحظى به فلسطين بالولاء الأعمى لإيران مجرد خلط لا تدعمه الوقائع. لقد استندت هذه التعليقات أيضا إلى افتراض مغلوط وقابل للتزوير وهو أن تطابق المواقف من فلسطين يعني ضمنا وتلقائيا وجود علاقة سببية بين تصرفات المواطنين المحتجين من ناحية، وبين السياسة الخارجية الإيرانية من الناحية الأخرى.
لكن البيانات التي خلص إليها الباروميتر العربي في دورته الأخيرة لعام 2024 تشير إلى أن الاعتراض على حرب إسرائيل الدائرة حاليا على غزة والوقوف ضد إيران وضد سياسات أعوانها وحلفائها الإقليميين في المنطقة ليست مواقف ينفي أحدها الآخر. إذ تتسم آراء مواطني الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدقة أعلى وتنوع أكبر في أطيافها، ومجمل تلك الآراء لا يُختزل بخانة واحدة تنحصر بمواقف طهران من فلسطين.
كما أن إسقاط نتانياهو الاحتجاج من الحساب واعتباره موقفا “يُشترى ويُمَوّل” لنزع الشرعية عنه يسلط الضوء على ازدواجية معايير “حرية” الرأي التي عانى منها الخطاب الدائر حول الحرب على غزة خلال الأشهر التسعة الماضية. إذ تعني المساواة بين الاحتجاج والدعاية بشكل قاطع ضمنا أن انتقاد إسرائيل هو نتيجة احتمالين لا ثالث لهما: الإكراه أو الاحتواء. يشبه هذا المنطق إلى حد كبير ما صدر من تصريحات على لسان حكام منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المستبدين الذين اعتبروا المحتجين الذين طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة في ذروة الربيع العربي “عملاء أجانب” أو “إرهابيين”. لازمة نتانياهو ليست جديدة؛ لقد اعتاد مواطنو المنطقة سماعها وهي لا تقل ابتذالا عن تسخير إيران للقضية الفلسطينية في سباقها لتثبيت نفوذها الإقليمي.
أشعلت حرب إسرائيل على غزة مجددا حماس الجماهير في المنطقة. تشير النتائج التي خلص إليها الباروميتر العربي أن غالبية المواطنين الذين استُطلعت آراؤهم يعتبرون الحصار الذي فرضته إسرائيل منذ عام 2007، وقصفها للقطاع وتدميرها للبنى الأساسية فيه والتهجير القسري لأهل غزة أعمالا إرهابية. وقد اعتبر العدد الأكبر من المواطنين في الأردن والكويت ولبنان وموريتانيا أن أعمال إسرائيل تشكل إبادة جماعية واختاروا هذا التوصيف من قائمة مصطلحات تضمنت كلمات الحرب والقتل الجماعي والنزاع والتطهير العرقي والأعمال العدائية والمجزرة. من غير المستغرب إذا أن يتراوح الدعم لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بين 3 بالمئة في الأردن إلى 13 بالمئة على أقًصى تقدير في المغرب.
ورغم السخط على مواقف السياسة الأمريكية من الحرب على غزة، يؤمن العدد الأكبر من المواطنين في معظم البلدان بضرورة أن تتصدر فلسطين أولويات إدارة بايدن. لكن وبغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة وسيطا نزيها أم لم تكن، فإن نسبة المواطنين الذين رأوا في الولايات المتحدة وسيطا مناسبا للوصول إلى حل سياسي يعتبره الطرفان عادلا تتجاوز نسبة من قالو إن الدول الأخرى التي تنتمي إلى ما يسمى “محور المقاومة” – بما في ذلك الصين وروسيا- يمكن أن يؤدوا هذا الدور.
سجَّلَ الرضا عن إيران مستويات متدنية عموما في البلدان التي أُجري فيها الاستطلاع. أقلية من السكان في كل من لبنان (36 بالمئة)، وفلسطين (28 بالمئة)، والأردن (25 بالمئة) والكويت (15 بالمئة) راضية إلى حد كبير أو نوعا ما عن هذا البلد. وبالمثل، فإن نسبة قليلة تنظر بشكل إيجابي للسياسة الخارجية للمرشد الأعلى علي خامنئي تتراوح بين لا أكثر من تسعة بالمئة في الكويت إلى الحد الأقصى وهو 32 بالمئة في كل من لبنان وتونس. وفي جميع البلدان التي أجري فيها الاستطلاع باستثناء لبنان، فإن القادة الذين كان الرضا عن سياساتهم أقل من الرضا عن خامنئي هم الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، و/أو الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي حين تحتل فلسطين مكانة هامة في الخطاب والاستراتيجية الإيرانية ويتكرر ذكرها فيهما في مسعى من إيران لترسيخ نفوذها الإقليمي، لا ينظر مواطنو المنطقة إلى مساعيها وسياساتها في المنطقة بشكل إيجابي. نصف السكان أو أقل بنسبة صغيرة تقريبا في فلسطين (47 بالمائة) والمغرب (46 بالمائة) وأكثر من نصف السكان في الأردن (57 بالمائة) ولبنان (56 بالمائة) والكويت (56 بالمائة) وتونس (54 بالمائة) يؤمنون بأن نفوذ إيران في المنطقة يشكل تهديدا خطيرا لمصالح الأمن القومي في بلدانهم. ويتفق نصف السكان أو أكثر في كافة البلدان باستثناء موريتانيا مع هذا الرأي تجاه البرنامج النووي الإيراني. في الكويت، تتساوى نسبة المواطنين الذين يرون أن البرنامج النووي الإيراني يشكل تهديدا خطيرا لبلدهم (80 بالمئة) تقريبا مع نسبة هؤلاء الذين ينظرون بنفس الطريقة إلى احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
وحين يتعلق الأمر بحلفاء طهران وأعوانها في المنطقة، تساور جماهير المنطقة الشكوك ذاتها. إذ ينتقد معظمهم روسيا، والأغلبية الساحقة منهم غير راضية عن الرئيس السوري بشار الأسد. أما حزب الله، وكيل إيران في المنطقة، الذي لا يحظى بدعم قوي داخل لبنان إلا بين صفوف الشيعة، لم يكن ليعتبر قوة تعمل من أجل الصالح العام. لقد كشفت البيانات التي خلصت إليها الدورة السابعة للباروميتر العربي (2022-2023) أن قلة من المواطنين في السودان (30 بالمائة)، ولبنان (24 بالمائة)، وموريتانيا (23 بالمائة)، والعراق (16 بالمائة)، والأردن (ستة بالمائة) وافقت على العبارة التي تفيد بأن ” تدخل حزب الله في السياسات الإقليمية يصب في مصلحة المنطقة العربية”.
في نهاية المطاف، كان سيقتضي نجاح استراتيجية نتانياهو في نزع الشرعية عن منتقدي إسرائيل عبر تصويرهم كعملاء لإيران أيضا أن لا يكون هؤلاء من منتقدي إيران. وعليه، يبدو أن جماهير الشرق الوسط وشمال إفريقيا سبقت نتانياهو حين أحبطت بموقفها ما كان ينوي أن يحققه.
تمت مراجعة هذه المدونة لتصحيح خطأ في سؤال الاستطلاع بشأن التصورات حول الأطراف المحتملة للتوسط في حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. لم تتلقَ جميع الدول المستطلعة الخيار “إيران” كخيار للإجابة.