هذه النسخة المترجمة للمقال الذي صدر في الأصل باللغة الانجليزية في مجلة “فورين أفيرز.”
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً أنه مع تراجع وتيرة العمليات العسكرية في غزة، سوف تلتفت إسرائيل إلى خصمها في الشمال: جماعة حزب الله الشيعية اللبنانية. بين الطرفين تاريخ طويل من النزاع يرجع إلى غزو إسرائيل للبنان في عام 1982، واحتلالها للقطاع الجنوبي من لبنان بين 1985 و2000، والحرب الشاملة بين الطرفين في عام 2006. خلال السنوات الأخيرة، شنت إسرائيل وحزب الله هجمات محدودة عابرة للحدود لكن زادت وتيرة وحجم هذه الهجمات بعد هجوم حماس المروّع على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحملة العسكرية الإسرائيلية التالية له في غزة. وخلال الأسابيع الأخيرة، تنامت المخاوف من إمكانية اندلاع حرب كبرى أخرى بين الطرفين.
إذا بدأت هذه الحرب، فسوف تحدث في بلد يقف على حد الهاوية. منذ انهيار الاقتصاد اللبناني شبه الكامل في 2019، يواجه اللبنانيون تحديات هائلة. يتضح مدى إحساسهم باليأس والإحباط من نتائج استطلاع الرأي الممثل لمستوى الدولة الذي نفذه الباروميتر العربي بين فبراير/شباط وأبريل/نيسان 2024، ويشمل جميع مناطق لبنان، الريف والحضر، ويغطي جميع الطوائف الكبرى.
تاريخياً، كان لبنان من أكثر بلدان المنطقة العربية غير النفطية ثراءً وتطوراً. لكن الظروف تدهورت بشكل ملحوظ لا سيما في السنوات الأخيرة، فغذّى هذا التدهور الإحباط والغضب في أوساط المواطنين اللبنانيين من جميع الطوائف. يقول نحو 80 بالمئة من المواطنات والمواطنين إن توفّر الطعام وتناسب أسعاره حالياً يشكل مشكلة لهم. كما يفيد 68 بالمئة منهم بأن الطعام نفد أحياناً في الشهر الأخير قبل توفر النقود لشراء المزيد. ومن بين دول المنطقة السبع التي أُجري فيها الاستطلاع منذ سبتمبر/أيلول 2023، كانت نسبة الرضا عن توفر خدمات المياه والكهرباء والإنترنت والرعاية الصحية في لبنان هي الأدنى. كما أن اللبنانيون هم الأكثر إقبالاً على القول بالتعرض لانقطاع الكهرباء مرة في الأسبوع على الأقل: بنسبة 92 بالمئة، وهي النسبة الأعلى من أقرب نسبة إليها في أية دولة أخرى شملها الاستطلاع بـ 43 نقطة مئوية، وذلك في الأراضي الفلسطينية التي تم استطلاع آراء المواطنين فيها قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول بقليل. ونفس النسب نراها في ملف انقطاع المياه أسبوعياً، بواقع 65 بالمئة يفيدون بالتعرض لهذا في لبنان، أعلى بواقع 17 نقطة مئوية عن أقرب نسبة في الدول الأخرى (الأراضي الفلسطينية هنا أيضاً).
ويسود إحساس عام بانقطاع الأمل في المستقبل؛ إذ يرى 13 بالمئة فقط من المواطنين أن الوضع سيتحسن على مدار فترة العامين إلى ثلاثة أعوام المقبلة. ومن بين الشعوب العربية التي شملها الاستطلاع، كان اللبنانيون هم الأكثر إقبالاً على القول بأن وضعهم أسوأ من وضع جيل آبائهم (أكثر من 50 بالمئة)، ويرى 28 بالمئة فحسب أن جيل أطفالهم سيصادف جودة حياة أفضل من حياتهم.
حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان لبنان بلداً منقسماً بشكل عميق. فقد تعرضت البلاد لحرب أهلية مروّعة انقسمت أطرافها على خطوط طائفية، من 1975 إلى 1990، وانتهت باتفاق سلام هشّ ضمن للطوائف الدينية الرئيسية حقوقاً سياسية معينة. على سبيل المثال، يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحياً، ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس البرلمان شيعياً.
لكن صعود حزب الله في العقود الثلاثة الأخيرة بدّل بشكل عميق من توازن القوى هذا. بصفته الطرف غير التابع لدولة الأقوى تسليحاً في العالم، اعتبرت أغلب دول الغرب حزب الله جماعة إرهابية. لكن في لبنان، يتحرك كحزب سياسي قانوني وكقوة أمنية مشروعة: فالجماعة تحكم فعلياً أغلب مناطق لبنان، لا سيما في الجنوب والشرق. كذلك يقدم حزب الله خدمات أساسية لمن يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرته، من النوع الذي تقدمه الدولة في العادة. من ثم فحزب الله يتحرك كدولة داخل الدولة. وليس لدى الحكومة الوطنية اللبنانية أو القوات المسلحة اللبنانية القدرة على التصدّي لحزب الله، ما يعني أنه قادر فعلياً على جرّ لبنان إلى حرب مع إسرائيل ولو تحرك في هذا الاتجاه منفرداً.
يتضح من استطلاع رأي الباروميتر العربي أنه رغم كون حزب الله قوة محركة كبرى في السياسة اللبنانية ورغم تمتعه بمستويات عالية من الدعم في صفوف السكان الشيعة – الذين يتركز تواجدهم في الجنوب والشرق – فهو لا يتمتع بدعم عريض في كافة أنحاء لبنان. على ذلك، فالكثير من اللبنانيين يتفقون مع بعض مواقف حزب الله المبدئية. يدعم اللبنانيون بقدر كبير حقوق الفلسطينيين ويدينون إسرائيل على تصرفاتها في غزة. الكاشف هنا أن نتائج الاستطلاع تفيد بجلاء أن دعم دور حزب الله في الشأن الإقليمي قد زادت نسبه في أوساط اللبنانيين من غير الشيعة، والمؤكد أن السبب هنا هو مقاومة حزب الله لإسرائيل في أعقاب انطلاق الحرب في غزة. وإذا قامت إسرائيل بغزو لبنان لمهاجمة حزب الله، فمن المرجح أن تزيد نسب دعم حزب الله أكثر.
مسألة ثقة
تكشف نتائج الباروميتر العربي عن دعم قلة من اللبنانيين لحزب الله برغم نفوذه الكبير في لبنان. يقول 30 بالمئة فقط إن لديهم قدر هائل أو كبير جداً من الثقة في حزب الله، في حين يقول 55 بالمئة إنهم لا يثقون فيه إطلاقاً. وتتباين مستويات الثقة بحسب الطائفة. بين السكان الشيعة، يقول 85 بالمئة إنهم يثقون جداً أو يثقون في حزب الله. بالمقارنة، يقول 9 بالمئة فقط من السنة والدروز ذلك، وتبلغ النسبة 6 بالمئة في صفوف المسيحيين. منذ استطلاع الباروميتر العربي الأخير في لبنان عام 2022، زادت معدلات الثقة في حزب الله في أوساط الشيعة بواقع 7 نقاط مئوية، لكن لم تتغير في أوساط المسيحيين والسنة والدروز.
كما لا يوجد دعم عريض في لبنان لدور حزب الله في السياسة الإقليمية. الثلث فقط يقولون إنهم يؤيدون أو يؤيدون بشدة مقولة أن تدخل حزب الله في السياسة الإقليمية مفيد للمنطقة، بينما يقول عدد كبير – بواقع 42 بالمئة – إنهم يعارضون هذه المقولة بشدة. ولم يكن من المدهش أن الشيعة في لبنان هم الأكثر إقبالاً على تصنيف دور حزب الله الإقليمي تصنيفاً إيجابياً (بواقع 78 بالمئة)، مقارنة بـ 13 بالمئة فقط في أوساط السنة، و12 بالمئة في حالة المسيحيين، و16 بالمئة بالنسبة إلى الدروز.
لكن زادت التصورات الإيجابية حول دور حزب الله في السياسة الإقليمية بواقع 9 نقاط مئوية منذ 2022، ويجدر بالملاحظة أن هذه الزيادة في الدعم لم تأت من صفوف الشيعة، الذين ظلت آراؤهم حول هذه المسألة كما هي لم تتغير على مدار العامين الأخيرين. إنما جاء الدعم الإضافي من الطوائف الأخرى؛ إذ زادت التصورات الإيجابية لدور حزب الله الإقليمي 10 نقاط مئوية في صفوف الدروز، وبلغت الزيادة 8 نقاط مئوية في صفوف السنة، و7 نقاط مئوية في صفوف المسيحيين.
يُرجح أن السبب هنا هو التعاطف مع موقف حزب الله من إسرائيل، وليس الدعم العميق والحقيقي للحزب. يشعر اللبنانيون من جميع الطوائف بالغضب الشديد من حملة إسرائيل العسكرية في غزة. على قائمة من سبعة مصطلحات تتراوح من “النزاع” إلى “الإبادة الجماعية”، كانت المصطلحات الأكثر اختياراً لوصف العمليات العسكرية في غزة هي “الإبادة الجماعية” (36 بالمئة من المبحوثين اختاروا هذا المصطلح) و”المجزرة” (25 بالمئة). في الوقت نفسه، يقول 78 بالمئة من اللبنانيين إن قصف إسرائيل لغزة يمثل “أعمالاً إرهابية” مقارنة بـ 11 بالمئة فقط ممن يصفون هجمات حزب الله على شمال إسرائيل بـ “الإرهاب”.
الراعي الرئيسي لحزب الله هو إيران، لذا فمن غير المدهش أن آراء اللبنانيين في إيران تعكس تصوراتهم عن دور حزب الله في السياسة الإقليمية. يحمل 36 بالمئة من اللبنانيين آراء إيجابية للغاية أو إلى حد ما تجاه إيران، ونرى هنا التقسيمة الطائفية: 80 بالمئة من الشيعة يحملون هذه الآراء الإيجابية، مقارنة بـ 26 بالمئة فقط من الدروز، و15 بالمئة من السنة، و15 بالمئة من المسيحيين. رغم هذا المستوى المنخفض عموماً للدعم، فالآراء الإيجابية نحو إيران قد زادت بواقع 8 نقاط مئوية منذ 2022، ويحرك هذه الزيادة بالأساس تغيّر آراء الطوائف غير الشيعية. لقد تحسنت صورة إيران كثيراً في صفوف الدروز (بواقع 9 نقاط مئوية) ثم المسيحيين (5 نقاط) والسنة (4 نقاط).
هذا التحوّل تجاه إيران – لا سيما في صفوف الطوائف غير الشيعية في لبنان – اقترن بانهيار الدعم الشعبي اللبناني للولايات المتحدة الأمريكية. في 2024، يعرب 27 بالمئة فقط من اللبنانيين عن آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كانت النسبة 42 بالمئة في 2022. المسيحيون هم الأكثر إقبالاً على الآراء الإيجابية تجاه أميركا (49 بالمئة)، ثم الدروز (32 بالمئة) والسنة (25 بالمئة). وفي صفوف الشيعة، فالنسبة متدنية للغاية، لا تزيد عن 5 بالمئة. والتغيّر الأكبر في النسبة كان في صفوف الدروز، حيث تراجعت نسبة تفضيل سياسات الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة 31 نقطة مئوية. وتراجعت النسبة 13 نقطة مئوية في صفوف المسيحيين، و11 نقطة في صفوف السنة، و8 نقاط بالنسبة إلى الشيعة.
لا شك أن موقف حزب الله في نظر اللبنانين تشكله آراؤهم من الوضع في غزة. لكن رغم مكاسب الحزب من حيث الشعبية، فسياساته وتحركاته لم تؤد إلى دعم عريض عابر للطوائف. على مستوى لبنان، يشعر 12 بالمئة فقط أن حزب الله هو أقرب حزب سياسي إليهم. الشيعة هم الطائفة اللبنانية الوحيدة التي يقول أكثر من 1 بالمئة منها إن حزب الله هو الأقرب إليهم من بين كافة أحزاب لبنان السياسية. وحتى في أوساط الشيعة، فإن 39 بالمئة فقط يقولون إنهم يشعرون بأن حزب الله هو الأقرب لتوجهاتهم، وهي تقريباً نفس نسبة (37 بالمئة) من يقولون إنهم لا يشعرون بالتقارب مع أي حزب سياسي.
عدو عدوّي
نظراً لأهمية الحرب في غزة، كانت إحدى نتائج الاستطلاع مدهشة إلى حد ما: من بين جميع الشعوب العربية السبعة التي شملها استطلاع الباروميتر العربي منذ سبتمبر/أيلول 2023، كان اللبنانيون هم الأكثر اهتماماً بضرورة أن تعلي إدارة بايدن أولوية التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط على القضية الفلسطينية. هذه نتيجة مدهشة، بما أن أغلب اللبنانيين يشعرون بقدر هائل من التعاطف مع الفلسطينيين ويحملون ريبة عميقة إزاء سياسات واشنطن. تسلط هذه النتيجة الضوء على مدى تدهور الظروف في لبنان في الآونة الأخيرة. الحق أن المبحوثين في لبنان كانوا قابلين بشكل عام لفكرة تلقي المساعدة من الأطراف الخارجية؛ إذ يدعم 62 بالمئة عقد الحكومة اللبنانية صفقة مع صندوق النقد الدولي في 2022 لإنقاذ لبنان مالياً، حتى وإن كانت بعض شروط الاتفاق غير جيدة في تقديرهم.
يلتفت اللبنانيون إلى الأطراف الخارجية لأن الأزمة السياسية والمالية القائمة دمّرت ثقة المواطنين في حكومتهم وقوضت ثقتهم في القيادات الدينية. يعرب المواطنون اللبنانيون عن أدنى مستوى ثقة في القيادات والمؤسسات السياسية قياساً إلى أية دولة أخرى شملها استطلاع الباروميتر العربي. إذ يقول 9 من كل 10 لبنانيين إنهم ليست لديهم ثقة كبيرة أو إنهم يفتقرون تماماً إلى الثقة في حكومتهم والبرلمان والرئيس ورئيس الوزراء. يقول 94 بالمئة من اللبنانيين إنهم مستاؤون من أداء الحكومة. ويقول 3 من كل 4 أشخاص إنهم لا يثقون في القيادات الدينية، ويقول 65 بالمئة إن القادة من رجال الدين يُرجح أن يكونوا فاسدين بنفس فساد القادة غير الدينيين.
الظاهر هنا أن هناك مؤسسة حكومية وحيدة تتمتع بقدر من المصداقية في نظر اللبنانيين، وهي القوات المسلحة اللبنانية، وتبلغ معدلات الثقة فيها 85 بالمئة من جميع المبحوثين، وهي النسبة الأعلى بكثير من نسبة الثقة في حزب الله أو أي طرف آخر. يشعر أعضاء جميع الطوائف بنفس القدر من الثقة في القوات المسلحة. لعل هذا مرتبط بأن القوات المسلحة تضم في صفوفها عناصر من جميع الطوائف اللبنانية، ولكونها أكبر صاحب عمل في لبنان، وتوفر شبكة أمان هامة تخدم العاملين بها وعائلاتهم.
مع إقدام إسرائيل وحزب الله على التفكير في تصعيد النزاع بينهما، على الطرفين تقدير السياق الذي قد تندلع فيه حرب جديدة: إنها فترة هشاشة ويأس عميق في لبنان. يبقى المواطنون اللبنانيون حذرون إلى حد بعيد من حزب الله (وإيران)، لكن الجميع تقريباً روّعتهم حرب إسرائيل في غزة، وزاد دعم وتقدير البعض لتصدي حزب الله عسكرياً لإسرائيل. إن المنطق الأساسي هنا – “عدو عدوي صديقي” – يُرجح أن يضرب بجذوره أعمق وأعمق في صفوف اللبنانيين إذا اختارت إسرائيل شنّ حرب أكبر على الحزب، لا سيما إذا قامت القوات الإسرائيلية بغزو لبنان. العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان – إذا انطلقت – من شأنها أن تعظّم كثيراً من الصعوبات التي يواجهها المواطنون العاديون بالفعل، وسوف يرى الكثيرون في دعم حزب الله حلاً عملياً للدفاع عن الوطن، مما سيصعب على إسرائيل أكثر تحقيق أهدافها.
في الوقت نفسه، إذا نُظر إلى حزب الله بصفته الطرف الذي تسبب في توسيع رقعة الحرب لتشمل لبنان، فقد يخسر هامش الدعم المحدود الذي ربحه منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من الكتل غير الشيعية في لبنان. لا يرغب المواطن اللبناني في حرب على أرض بلده. إذا اندلعت حرب ولام المواطنون حزب الله؛ فقد تتراجع شعبيته. نظراً للآراء السلبية للغاية التي يحملها اللبنانيون تجاه تصرفات إسرائيل في غزة، فمن غير المرجح إذا حدث تراجع في هامش دعم حزب الله المحدود الذي جدّ مؤخراً أن يقترن هذا بأي تغير إيجابي في الآراء نحو إسرائيل. قد يؤدي هذا السيناريو إلى مناوئة الكثير من اللبنانيين لطرفيّ الحرب التي ستصعب أكثر وأكثر من ظروفهم الصعبة بالفعل.
د. ماري كلير روش هي مديرة التكنولوجيا والابتكار بالباروميتر العربي.
د. مايكل روبنز هو مدير الباروميتر العربي وباحث أول مشارك في أعماله.