ليس هناك وقت خلال العام تتراكم فيه الأعباء على المرأة التونسية مثل شهر رمضان.
تتحمل المرأة خلال هذا الشهر أكثر من عبء، فهي بالإضافة إلى عملها خارج البيت، تحمل على عاتقها طيلة رمضان وزر تلبية الرغبات الاستثنائية للأسرة على صعيد إعداد وجبات الطعام التي تبدأ بالإفطار وتتواصل بعده إلى حين موعد الإمساك. تتحول الموائد أحياناً إلى ولائم لمّا يجتمع حول الإفطار أفراد الأسرة الموسعة. بعد تناول طعام الإفطار يميل الكثير من الرجال إلى شد الرحال نحو المقاهي حيث يقضون المساء مع الأقارب والأصدقاء، فيما تواصل المرأة تعهد شؤون البيت.
يجب عدم التعميم طبعاً، فقد أصبح الزوج، بخاصة في الأسر الشابة، يساهم إلى حد ما في تدبير شؤون المنزل خلال هذا الشهر، في انعكاس لتطور العلاقة بين الرجل والمرأة ضمن العائلة وبقية المجتمع.
ولكن إلى أي حد تغيرت فعلاً العقليات بخصوص دور المرأة؟ سؤال أجاب عن بعض جوانبه استطلاع للرأي نشرت نتائجه مؤسسة “البارومتر العربي” عشية الاحتفال باليوم العالمي للمرأة.
أظهر هذا الاستطلاع أن المجتمع التونسي تطور على صعيد العقليات، ولكن المسار نحو الاقتناع بالمساواة الكاملة بين الجنسين ما زال لم يكتمل بعد.
لا تزال هناك إشكاليات عالقة رغم كل الإصلاحات والقوانين. بقي في كثير من الحالات تناقض بين الإجراءات التي تؤسس للمساواة والممارسات غير المنصفة التي لا تزال تواجه المرأة على صعيد الواقع.
من جهة، هناك مثلاً ما يشبه الإجماع في المجتمع التونسي — بحسب الاستطلاع — على المساواة بين الرجل والمرأة في ما يتعلق بالزواج (بنسبة تبلغ 95 في المئة) وفي اتخاذ “القرارات المؤثرة” في الأسرة.
لكن مثل هذه المواقف المبدئية لا تتوافق مع ظواهر ما زالت منتشرة في المجتمع التونسي، مثل ظاهرة العنف المسلط على المرأة داخل العائلة وخارجها. وهي ظاهرة تؤرق المجتمع المدني والدولة منذ سنوات من دون أن يجدا لها حلاً، وإن تتالت المبادرات لزجر المذنبين وحماية ضحايا هذه الأعمال المشينة.
عنف من نوع آخر يمارس على المرأة يتمثل في ظاهرة التحرش بها التي يقر بوجودها حوالي 80 في المئة من المستجوبين والمستجوبات في استطلاع “البارومتر العربي”. تخفّ حدّة هذه الظاهرة عامة خلال شهر رمضان، لكن لا شيء يجعل المرأة بمنأى عن التحرش بقية العام. يمثل ذلك عقبة كأداء أمام إحساس المرأة بالراحة، سواء في الشغل أم في الفضاءات العامة.
مثل هذه الظواهر لا تساعد المرأة التونسية على التمتع بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية. ولا يزال البون شاسعاً بين ما تنص عليه النصوص الدستورية والقانونية والواقع. وخير دليل إلى ذلك ما تقوله الأرقام الرسمية الصادرة هذا العام من أن نسبة البطالة لدى المرأة (سواء كانت خريجة جامعة أم لا) هي أكثر من ضعفي النسبة لدى الرجل.
من غير العادل أن يكون أداء البنت ونسبة نجاحها في الجامعة أعلى من مستوى زملائها الذكور في الوقت الذي يكون فيه حظها في التشغيل نصف حظ الرجل. ومن غير المعقول أن ينظر إلى ذلك على أنه أمر عادي.
هناك الكثير من الأسباب والأعذار تذكر لتبرير هذا التمييز، ولكن هذه المسوّغات لا يمكن أن تحجب استشراء الاعتقاد الخاطئ لدى شريحة واسعة من الناس بأن الرجل أولى بالتشغيل، بخاصة في زمن الأزمات. يستند هذا الاعتقاد إلى أفكار مسبقة أكثر من استناده إلى مبررات اقتصادية صحيحة. فأي دولة تقصي نساءها من سوق الشغل لن تستطيع تحقيق نسب كافية من النمو. وكل الدراسات الجدية تدل إلى ذلك.
غياب المساواة الفعلية في فرص التشغيل يزيد في الهشاشة الاجتماعية للمرأة. وقد يكون ذلك السبب وراء ارتفاع نسبة النساء الراغبات في الهجرة إلى الخارج بما يعادل تقريباً نسبة الرجال الذين يحلمون بالهجرة كحل لمصاعبهم. كانت الهجرة في السابق شبه حكر على الرجال، وأصبحت اليوم هاجساً مشتركاً للجنسين في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد.
هناك أيضاً نوع من اللبس يصبغ مواقف التونسيين بخصوص دور الجنسين في المجال السياسي. ذلك أنه إن كانت أغلبية التونسيين – بحسب الاستطلاع — توافق على تخصيص حد أدنى من المقاعد للمرأة في الحكومة والبرلمان، فإن المجتمع عموماً لا يزال غير مقتنع تماماً بأحقية المرأة في تولي المناصب القيادية في الدولة على قدم المساواة مع الرجل. فنسبة 53 في المئة من التونسيين على وجه التحديد ترى غير ذلك.
تطور عقليات المجتمع التونسي تجاه المرأة مسألة تأبى التبسيط وليست مكسباً يتحقق تحققاً نهائياً وبسهولة. هناك رواسب عميقة تطفو على السطح من حين إلى آخر يستغلها البعض للدفع إلى الوراء. ولا بد في هذا الصدد من الإقرار بأن تيارات مناهضة لحقوق المرأة قد نشأت ونمت في تونس خلال العقود الماضية، ولن يزعج أصحابها بتاتاً إلغاء ما حققته المرأة التونسية من مكاسب جعلتها قدوة في المنطقة.
ما زال هناك جهد لا بد من أن يُبذل نحو تطوير العقليات إذا ما أريد للمرأة التونسية أن تتمتع فعلياً بكل حقوقها، وأن تكون تجربتها مصدر إلهام خارج حدود تونس.
وهذا الجهد يتطلب أدواراً ريادية لا بد من أن يلعبها الرجال قبل النساء من بين أفراد الطبقة السياسية وسائر القطاعات الفاعلة في المجتمع. ومن أحسن الأمثلة التاريخية على ذلك الأدوار التي لعبتها شخصيات طلائعية مثل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والمفكر الإصلاحي الطاهر الحداد خلال القرن الماضي.
سواء كان الأمر خلال شهر رمضان أم خارجه، فإن دور المرأة التونسية يبقى أوسع من مساحة المطبخ. ومعركة العقليات لم تُحسم بعد.
أسامة رمضاني هو وزير إعلام تونسي سابق ورئيس تحرير” العرب ويكلي”. الآراء الواردة في هذه المساهمة تعكس وجهة نظر الكاتب.
المقال الأصلي على موقع النهار العربي