مرت نحو 19 سنة منذ إسقاط نظام صدام حسين وإنشاء الجمهورية الثانية في العراق. في حين أعيد تشكيل بنى الدولة والنظام السياسي بشكل عميق ومستفيض، فإن تأثير هذا التحول على حياة العراقيين لا يزال مثار تساؤلات ونقاشات. يحاول استطلاع الباروميتر العربي الأخير (الدورة السادسة التي تمت في الفترة مارس/آذار وأبريل/نيسان 2021) أن يساهم في هذا النقاش. تكشف نتائج الاستطلاع عن الاستياء الشعبي إزاء الأوضاع السياسية، وعدم الرضا عن نظم التعليم والصحة والأحوال الاقتصادية، والقلق إزاء الحريات المدنية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019 واجهت الحكومة ورئيس الوزراء حينئذ، عادل عبد المهدي، موجة كبرى من الاحتجاجات الشعبية في بغداد، انتقلت سريعاً إلى مختلف المدن العراقية. دارت المطالب حول الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وإنهاء الفساد والنظام السياسي الطائفي. بيد أن قسوة رد الفعل من قبل الشرطة والميليشيات غيّرت موقف المتظاهرين، الذين انتقلوا إلى المطالبة بإصلاحات سياسية وعقد اجتماعي جديد للدولة العراقية. قدم المهدي استقالته في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2019، وفي مايو/أيار 2020 طلب مجلس النواب من رئيس الاستخبارات السابق مصطفى الكاظمي أن يشكل حكومة مؤقتة. تمكّن الكاظمي إلى حد ما من تكثيف جهود مكافحة الفساد وتلبية بعض المطالب الشعبية. قام بتعزيز سياسات مكافحة الفساد وأنشأ لجنة خاصة للتحقيق في تهم الفساد والجرائم المهمة، بمساعدة هيئة النزاهة. النتائج الإيجابية لهكذا تدابير قد لا تظهر للعيان مباشرة.
يعتبر الشعب الفساد من أكبر التحديات التي تعيق التقدم في العراق. نحو الربع تقريباً (23%) من العراقيين قالوا إن الفساد هو أكبر تحدٍ يواجه البلاد، وهي أعلى نسبة مقارنة بالدول الأخرى المشمولة في استطلاع الباروميتر العربي لربيع 2021. الفساد المستشري هو من الظواهر التي تحظى بإجماع الآراء، إذ يقول 88% من العراقيين إنه مستشر لدرجة كبيرة أو متوسطة في مؤسسات الدولة والهيئات الوطنية. عقد العراق انتخابات عامة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، لكن لم يتم تشكيل حكومة بعد، الأمر الذي أنتج فراغاً سياسياً كبيراً في البلاد.
الثقة في مؤسسات الدولة متدنية. عندما نفذ الباروميتر العربي استطلاع الدورة السادسة في العراق (مارس/آذار 2021)، كانت حكومة الكاظمي المؤقتة تواجه بالفعل عدة تحديات، منها جائحة كوفيد-19، والحاجة إلى تلبية مطالب المتظاهرين، والتحضير للانتخابات التشريعية. نحو خُمس العراقيين (22%) أعربوا عن ثقتهم في الحكومة، في حين قال أكثر من النصف (56%) إنهم لا يثقون فيها بالمرة. وبالنسبة إلى الأداء الحكومي، صُنفت الحكومة العراقية من بين أقل الحكومات ضمن دول استطلاع الباروميتر العربي من حيث قدرتها على توفير الأمن والنظام (12% – أقل نسبة بالمقارنة مع الدول الأخرى) والسيطرة على التضخم (3% – ثاني أدنى نسبة) ومكافحة كوفيد-19 (6% – النسبة الأقل).
الثقة في النظام القضائي متدنية أيضاً. فالمحكمة الاتحادية العليا – وهي أعلى سلطة قضائية في العراق ومكلفة بتفسير وإنفاذ الدستور – لم تحظ مطلقاً بموافقة مجلس النواب على تشكيلها. بموجب المادة 92-2 من دستور 2005، فإن إنشاء المحكمة يجب أن يتحصل على موافقة ثلثيّ أعضاء مجلس النواب. لكن تم تشكيل المحكمة من قبل حكومة إياد علاوي المؤقتة (2004 – 2005). من ثم، هنالك من يقول إن المحكمة الاتحادية العليا لم تتشكل بصورة قانونية صحيحة، وكثيراً ما تتعرض قراراتها وأحكامها للانتقاد والرفض، لا سيما ما يتعلق بالقرارات فيما بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية. ترى حكومة الإقليم أن المحكمة غير دستورية وتتردد في قبول وتنفيذ أحكامها. تستند العلاقات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية إلى المواءمات والاتفاقات وراء الأبواب المغلقة. على سبيل المثال، في فبراير/شباط 2022، أعلنت المحكمة الاتحادية العليا أن قانون النفط والغاز لعام 2007 بمنطقة إقليم كردستان غير دستوري. أشعل الحكم خلافاً سياسياً بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وأعلنت الأخيرة أن المحكمة الاتحادية العليا غير دستورية. وأخيراً، هناك انتقادات مستمرة لمسألة حياد المحكمة السياسي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأحكامها في قضايا تمس شخصيات سياسية رفيعة المستوى.
ولم تتمكن المحكمة الجنائية المركزية من التعامل بفعالية مع قضايا فساد وتزوير كبرى. ولقد انتهكت معايير المحاكمة العادلة الأساسية في القضايا المتصلة بتنظيم الدولة الإسلامية. في يناير/كانون الثاني 2020، توصلت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) إلى أن جلسات المحكمة تقدم “تمثيلاً قانونياً غير فعال” وتفتقر إلى “توفر الوقت والتسهيلات اللازمة لتحضير القضايا”.
أما بالنسبة إلى الثقة في القوات المسلحة، فقد تمكن الجيش العراقي من استعادة بعض من الثقة المفقودة بعد هزيمته المهينة على يد الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) بالموصل في صيف 2014. وفي الجيش عناصر تتمتع بالشعبية قاتلت بشكل بطولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، مثل قائد قوات مكافحة الإرهاب العراقية، الفريق أول ركن عبد الوهاب الساعدي. طبقاً لاستطلاع الباروميتر العربي، قال 85% من العراقيين إن لديهم قدر كبير من الثقة أو قدر كبير للغاية من الثقة في قواتهم المسلحة.
على أن القوات المسلحة تواجه تحدي دمج ميليشيات قوات الحشد الشعبي في صفوفها. ولقد أدى الدمج الرسمي للحشد الشعبي في منظومة الأمن الحكومية بدءاً من ديسمبر/كانون الأول 2017 إلى تسييس الجيش. وظهر هذا التصور في خريف 2019 عندما قام رئيس الوزراء المهدي، بحسب المزاعم بضغط من قوات الحشد الشعبي، بنزع سلطات الفريق عبد الوهاب الساعدي بصفته قائداً لمكافحة الإرهاب، مع تكليفه بمنصب إداري بوزارة الدفاع. رأى الساعدي في هذا الإجراء إهانة لرتبته العسكرية ومنجزه العسكري، وبحسب التقارير أفاد بأنه يفضل دخول السجن على قبول هذا القرار. يُزعم أن قرار المهدي كان الشرارة التي أطلقت المظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
في مايو/أيار 2020 أعاد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تعيين الساعدي قائداً لقوات مكافحة الإرهاب، لكن قد يؤدي تنامي نفوذ قوات الحشد الشعبي في صفوف الجيش في نهاية المطاف إلى تقليل ثقة الشارع في الجيش.
تتعرض الحريات المدنية في العراق للانتهاكات بشكل متكرر. على سبيل المثال، فإن المشتبه بكونهم أعضاء في تنظيم الدولة الإسلامية يُحرمون من المحاكمة العادلة، وهناك أدلة على وجود التعذيب في السجون العراقية. أدت الإجراءات الأمنية ضد مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى وفاة 500 شخص وإصابة أكثر من 7 آلاف آخرين. لعل هذه الانتهاكات تفسر لماذا قال 27% فقط من العراقيين إن حرية المشاركة في المظاهرات السلمية مضمونة، وهي أدنى نسبة من بين الدول المشمولة باستطلاع الباروميتر العربي. إضافة إلى هذا، قامت السلطات بسجن 3 آلاف متظاهر. وكثيراً ما تلجأ الميليشيات إلى التعرض لسلامة الأفراد من مجتمع الميم. يقول ثلث العراقيين فقط إن حرية التعبير (32%) وحرية الصحافة (35%) مضمونة، وهذه هي أقل النسب من بين الدول المشمولة في الاستطلاع.
تتعرض حقوق النساء للانتهاك بشكل دائم. على سبيل المثال، زادت أعداد حالات العنف الأسري أثناء فترة انتشار كوفيد-19 (منظمة الأمم المتحدة للمرأة 2020). إضافة إلى هذا، عبّرت النساء عن المعاناة من التمييز في سوق العمل. من جانب، فهنّ يفتقرن إلى وسائل مواصلات تتيح لهن الوصول لسوق العمل. ومن الجانب الآخر، كثيراً ما يتم تفضيل الرجال على النساء في التعيين، في حين متوقع من النساء أن يقمن برعاية البيت. هذه المسألة تمثل صعوبة بالغة بصفة خاصة في المناطق الريفية. على هذا، فإن أغلب العراقيين (77%) لا يعارضون أن تتولى امرأة منصب الرئيسة أو رئيسة الوزراء. كما أن الأغلبية ترى أن التعليم الجامعي مهم للجنسين على السواء.
لا يزال الاقتصاد العراقي يعتمد بقوة على النفط. أدى تراجع أسعار النفط في 2020 إلى انحسار في إجمالي الناتج المحلي العراقي. في حين يعتنق العراق اقتصاد السوق، فإن عدم الاستقرار الاقتصادي والفساد وقانون الاستثمار العراقي، هي عوامل عرقلت من ترسيخ أقدام القطاع الخاص. من ثم، يعتبر الاستياء الشعبي من الأداء الاقتصادي للحكومة الاتحادية كبيراً للغاية، لا سيما نظراً لعدم قدرة حكومة الكاظمي على السيطرة على الفساد وأنشطة التهريب عبر الحدود مع إيران وسوريا. يرى 12% فحسب أن الوضع الاقتصادي الحالي جيد جداً أو جيد.
ومع تراجع أسعار النفط، ارتفعت معدلات الفقر أثناء فترة جائحة كوفيد-19، لا سيما في أوساط النازحين داخلياً. كما تُظهر التقارير الدولية أن أكثر من 4 مليون نسمة في العراق يحتاجون للمساعدات الإنسانية. إضافة إلى المذكور، زادت معدلات البطالة من 8% في 2012 إلى نحو 14% في 2020. ولدى سؤال المواطنين عن المشكلة الأهم التي يجب أن تركز عليها الحكومة من أجل تحسين الظروف الاقتصادية، أشار العراقيون في أغلب الحالات إلى الحاجة لتهيئة المزيد من فرص العمل (50%).
أكد العراق ظهور أول حالة كوفيد-19 فيه في مارس/آذار 2020. طبقاً لمنظمة الصحة العالمية، ظهرت في العراق 2,313,370 حالة كوفيد مؤكدة، و25,105 وفاة بين 3 يناير/كانون الثاني 2020 و15 مارس/آذار 2022. تم إعطاء ما مجموعه 17,014,009 جرعة لقاح للمواطنين حتى مارس/آذار 2022.
ومثلما حدث في كل مكان، كان للجائحة أثر كبير على المناطق الفقيرة والريفية. بلغ السخط الشعبي من الحكومة الاتحادية مستويات جديدة بسبب سوء التعامل مع جائحة كوفيد. كما ذكرنا أعلاه، فإن 6% فقط من العراقيين يقولون إن الحكومة تتعامل بشكل جيد جداً أو جيد مع جائحة كوفيد-19. في حين تمكنت الدولة من فرض حظر موسع، فهي لم تقدم الموارد لتعقب وفحص وعلاج حالات كوفيد-19. كما تعرضت المستشفيات لضغوط هائلة، في ظل قلة إمدادات الأوكسجين ومع ارتفاع أسعار معدات التعقيم والنظافة الشخصية وأقنعة الوجه. لم تتمكن الحكومة من توفير مصادر بديلة للدخل لمن خسروا أعمالهم أو وظائفهم بسبب تدابير الحظر، ولم تتمكن من تقديم الإعانات للمواطنين بشكل عام.
أضعفت الجائحة من سياسة اللاجئين السوريين في إقليم كردستان العراق. وبسبب مشكلات الميزانية التي لم تجد حلاً بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، وبسبب الضغوط الاقتصادية التي فرضتها الجائحة، قللت حكومة إقليم كردستان من رواتب العديد من الموظفين بواقع 20%، ما أدى إلى اضطرابات واحتجاجات في 2020.
د. أمجد رشيد هو زميل هيلاري كلينتون بجامعة الملكة في بلفاست. الآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب.