ليست الدول وحدها تتنازع من أجل التفوق الاستراتيجي الإقليمي والتموضع الشعبي لزيادة النفوذ في البلدان العربية. يسعى القادة الإقليميون بدورهم لتمثيل وترويج السياسات الخارجية للدول التي يقودونها، ويتطلعون لزيادة حضورهم الجماهيري في الإقليم. يمتلك بعضاً منهم حضوراً لافتاً ومتعدد اللغات على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة لإدارة وترويج صورهم العامة، مثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي يمتلك حضوراً بارزاً على منصة تويتر. يناشد جميع هؤلاء القادة الإقليميون الروابط العربية والإسلامية وغيرها من روابط التضامن التي تتعدى حدود الدول فيما يحاولون تبرير سياساتهم الخارجية ضمن هذه الروابط. تشير بيانات الباروميتر العربي الأخيرة أن نجاحهم في هذا المجال محدوداً جداً.
وفقاً لبيانات الدورة السادسة من الباروميتر العربي، القائد الإقليمي ذو الشعبية الأكبر في الدول المشمولة في الاستطلاع ما زال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حينما سئل المستطلعون عن رأيهم في سياساته الخارجية، قال أقلية وازنة منهم — حوالي أربعة من عشرة (42 بالمئة) — إن هذه السياسات جيدة جداً أو جيدة. تضمنت هذه الفئة أغلبية في كل من المغرب (57 بالمئة) والأردن (54 بالمئة) والجزائر (52 بالمئة) وأقلية وازنة في تونس (41 بالمئة). انخفضت النسبة في كل من لبنان (25 بالمئة) وليبيا (23 بالمئة) فقط، حيث رأى ربع المستطلعين أو أقل إن سياسات أردوغان الخارجية جيدة جداً أو جيدة.
جاء ولي العهد (والحاكم الفعلي للبلاد) السعودي محمد بن سلمان في المركز الثاني من حيث الشعبية، إذ قالت أقلية صغيرة من المستطلعين في الدول الستة المشمولة بالاستطلاع – حوالي واحد من أربعة (28 بالمئة) – إن سياساته الخارجية جيدة جداً أو جيدة. فيما بلغت شعبية بن سلمان نسبة أدنى بصورة ملحوظة من شعبية أردوغان في الدول الستة مجتمعة، كانت أعلى نسبة تأييد لسياساته الخارجية في ليبيا، حيث قال 45 بالمئة إن سياسات بن سلمان الخارجية جيدة أو جيدة جداً. في باقي البلدان المشمولة في الاستطلاع، عبرت نسب أقل عن تقييمها الإيجابي لسياسات بن سلمان الخارجية في كل من المغرب (39 بالمئة) والجزائر (31 بالمئة) ولبنان (24 بالمئة) وتونس (22 بالمئة) والأردن (13 بالمئة).
أخيراً، ورغم الحضور البارز على منصات التواصل الاجتماعي، جاء المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في ذيل قائمة القادة الإقليميين من حيث الشعبية، إذ قالت أقلية أصغر من المستطلعين في الدول الستة المشمولة بالاستطلاع – حوالي واحد من ستة (16 بالمئة) – إن سياساته الخارجية جيدة جداً أو جيدة. فيما بلغت شعبية أردوغان أكثر من ضعفي ونصف شعبية خامنئي في الدول الستة مجموعة، كانت أعلى نسبة تأييد لسياسات خامنئي الخارجية في المغرب، حيث قال 23 بالمئة إنها جيدة جداً أو جيدة. في باقي البلدان المشمولة في الاستطلاع، عبرت نسب أقل عن تقييمها الإيجابي لسياسات خامنئي الخارجية في كل من لبنان (20 بالمئة) وليبيا (19 بالمئة) والجزائر (15 بالمئة) وتونس (14 بالمئة) والأردن (5 بالمئة).
هناك العديد من العوامل التي قد تفسر شعبية أردوغان العالية نسبياً في البلدان المشمولة بالاستطلاع بالمقارنة مع بن سلمان وخامنئي. أولها أنه، بالرغم من ميوله القمعية والسلطوية، يتمتع أردوغان بشرعية انتخابية لا يمكن التغاضي عنها. فاز أردوغان وباستمرار بانتخابات كانت إجمالاً حرة ونزيهة، وبنسب مشاركة للناخبين تعد من الأعلى على مستوى العالم. من البديهي القول إن لا بن سلمان ولا خامنئي يحوزان على هذه الشرعية الانتخابية.
العامل الثاني هو انفتاح تركيا بقيادة أردوغان على المواطنين العرب وإتاحة الوصول إليها بمقدار أكبر من الدول العربية ذاتها. في نهاية العقد الأول من الألفية الثانية، ألغت الحكومة التركية برئاسة أردوغان تأشيرات الدخول لمعظم مواطني دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – ومن بينهم المغرب وتونس والأردن ولبنان و(لفترة) ليبيا – خمسة من الست دول المشمولة في الدورة السادسة للباروميتر العربي. وبينما تم إعادة متطلبات التأشيرة للبلاد التي مزقتها الحروب كليبيا وسوريا واليمن (الذي جعل دخول تركيا لمواطني هذه الدول شبه مستحيل)، تبقى تركيا من الدول القليلة في العالم المفتوحة والمتاحة للمواطنين العرب. ينعكس هذا الانفتاح الذي قادته حكومة أردوغان على التبادل التجاري والثقافي والسياحي المتزايد ما بين تركيا والدول العربية. لا المملكة العربية السعودية ولا إيران متاحة لهذا الكم من المواطنين العرب، وغير مرجح أن تصبح كذلك في ظل قياداتها الحالية.
ثم هنالك مزاعم قيادة الأمة الإسلامية، والتي يقوم بها أردوغان بفعالية أكبر من بن سلمان وخامنئي. استثمرت تركيا وبقيادة أردوغان في الإنتاج الثقافي الذي يسعى لإعادة إحياء الميراث الإمبريالي العثماني. وفيما كان هذا الاستثمار خلافي في تركيا، استقبله العالم العربي برحابة أكبر، نظراً لوجود أزمة قيادة متفاقمة ومستمرة في العالم العربي حيث يفتقد ميراث الإسلام الامبريالي بشدة. وبوصفه قائداً منتخباً لحزب وطني محافظ ذي جذور إسلامية، تعتبر مزاعم أردوغان لقيادة الأمة أقوى من مزاعم بن سلمان وخامنئي، وربما لنشأته البسيطة في حي قاسم باشا الاسطنبولي الفقير أن تلعب دور في تعزيز هذه المزاعم. لا يمكن لأي من بن سلمان وخامنئي زعم قيادة الأمة بنفس المصداقية، فبن سلمان هو وريث سلالة تحكم ملكية مطلقة، بينما تحول خلفية خامنئي الفقهية والمذهبية دون جذبه لفئات واسعة من المسلمين.
وأخيراً، هناك مسألة التدخل العسكري في دول الجوار، التي تطرق إليها زميلي مايكل روبنز في منشور سابق. وعلى الرغم من اتباع القادة الثلاثة سياسات خارجية يمكن سهولة وصفها بالإمبريالية، تعتبر سياسة أردوغان الأقل كلفة من ناحية الحياة البشرية. شتان ما بين التطهير العرقي الذي تمارسه وتمكنه تركيا في شمال سوريا وحروب الإبادة التي شنتها السعودية في اليمن وإيران في سوريا.
كما سبق وأن حاججت في منبر أخر، لشعبية أردوغان في العالمين العربي والإسلامي تبعات خطرة. ولكنه من السهل على المتابع المحايد رؤية أسباب عدم إمكانية بن سلمان وخامنئي على مجاراته.