درجت في العقود الأخيرة سردية تدّعي أن القطاع الخاص هو الدافع الرئيس للتحول الاقتصادي في العالم العربي، وقامت العديد من الجهات بتقديم هذه السردية ومن ضمنها الحكومات الأجنبية والوكالات الدولية والباحثين الاقتصاديين. حتى ما قبل انتفاضات ال٢٠١١، حاججت هذه الجهات بأن القطاع الخاص يجب أن يلعب دور محوري في إعادة بناء العقود الاجتماعية المنهكة (إن لم تكن محطمة) في المنطقة. وتم تقديم العديد من النظريات فيما يخص الدور التاريخي والمأمول للقطاع الخاص، فادّعى بعض الباحثين أن غياب القطاع الخاص الحقيقي المستقل—والذي يميزون ما بينه وبين رأسمالية المحسوبية—أجج الإحباط الاقتصادي وسارع موجات الانتفاض. يرى آخرون بأن القطاع الخاص في العالم العربي يتحمل مسؤولية سمعته السيئة، حيث ساد علاقاته مع الحكومات الغموض وانعدام الشفافية، وسعى تاريخياً إلى التحرير الجزئي للأسواق الذي يضمن أعلى نسبة من الأرباح ويقلل التنافس. ولكن على الرغم من هذه الفروقات هناك شبه إجماع من قبل الباحثين الأكاديميين والمحللين السياسيين بأن النظام الريعي الذي ساد في معظم البلدان العربية وجعل من الدولة مركز النشاط الاجتماعي قد انتهى، وبأنه يجب أن يصبح القطاع الخاص المحرك الرئيسي للاقتصاد في مستقبل المنطقة العربية.
فيما سبق لي أن كتبت عن الثقة في المؤسسات العامة في العالم العربي، سواء كانت تمثيلية أم تنفيذية، رأيت بضرورة إدراج المؤسسات الخاصة في النقاش عن الثقة في المؤسسات العربية. وفقاً البيانات الموجة الخامسة للباروميتر العربي، يثق حوالي ربع المستجوبون (٢٦ بالمئة) في شخصيات من عالم الأعمال المحلي، مما يمثل أقلية متدنية جداً من المستجوبين. يتضمن اليمنيون أكبر نسبة تثق بهؤلاء الشخصيات (٥٠ بالمئة)، فيما يتضمن الليبيون أدنى نسبة تثق بهم (١٤ بالمئة). وما بينهما تقع نسب الثقة في باقي البلدان والتي تعتبر منخفضة نسبياً: ٣٨ بالمئة في مصر، و٣٠ بالمئة في السودان، و٢٨ بالمئة في فلسطين، و٢٤ بالمئة في المغرب، و٢٣ بالمئة في العراق، و٢١ بالمئة في كل من الأردن وتونس، و٢٠ بالمئة في لبنان، و١٩ بالمئة في الجزائر.
وبخلاف رجال ونساء الأعمال، ترتفع نسب الثقة بمجملها عند الكلام عن المؤسسات الخاصة. مثلاً، يثق حوالي ٤٠ بالمئة من المواطنين العرب في البنوك الخاصة. وحدها اليمن تتضمن أكثرية تثق بالبنوك الخاصة (٧١ بالمئة)، فيما تثق أقليات متفاوتة الحجم بها في باقي البلدان: ٤٧ بالمئة في مصر، و٤٤ بالمئة في المغرب، و٤١ بالمئة في فلسطين، و٣٩ بالمئة في لبنان، و٣٨ بالمئة في الأردن، و٣٧ بالمئة في تونس، و٣٥ بالمئة في كل من الجزائر والسودان، و٢٩ بالمئة في العراق، و٢٠ بالمئة في ليبيا.
ترتفع نسب الثقة في المؤسسات الخاصة التي تنشط في المجالات الحيوية الأخرى كالتعليم والصحة. يثق حوالي ٤٤ بالمئة من المواطنين العرب في الجامعات الخاصة، بما فيها أكثريات في كل من اليمن (٧٥ بالمئة) وفلسطين (٦١ بالمئة). في البلدان الأخرى، تتراوح نسب الثقة في الجامعات الخاصة ما بين ٥٠ بالمئة في لبنان و١٩ بالمئة في ليبيا، بما فيها ٤٦ بالمئة في المغرب و٤٥ بالمئة في كل من العراق ومصر، و٣٩ بالمئة في الأردن، و٣٥ بالمئة في كل من تونس والسودان، و٢٦ بالمئة من الجزائر.
أما نسب الثقة في المشافي الخاصة فهي الأعلى من بين مثيلاتها من المؤسسات الخاصة المشمولة في الاستطلاع، فيثق حوالي ٤٨ بالمئة من المواطنين العرب في المشافي الخاصة، بما فيها أكثريات في كل من اليمن (٦٥ بالمئة) ومصر (٦١ بالمئة) والسودان (٥٧ بالمئة) وفلسطين (٥٣ بالمئة) والأردن (٥١ بالمئة). أما باقي الدول، فتحوى أقليات وازنة تثق بالمشافي الخاصة، تتراوح ما بين نسب ٤٩ بالمئة في المغرب و٢٧ بالمئة في ليبيا، مروراً ب٤٣ بالمئة في الجزائر و٤٢ بالمئة في كل من لبنان وتونس والعراق.
نظراً لهذا التفاوت الكبير، لعل أول الأهداف يجب أن يكون الفصل ما بين المؤسسات الخاصة المختلفة حسب التخصص والمجال الذين ينشطون به. تشير بيانات الاستطلاع بأن نسب الثقة في مجتمعات الأعمال الحرة وفي القطاع المصرفي أدني من مثيلاتها في مؤسسات التعليم والصحة الخاصة. لذا، على الباحثين الذين يطرحون موضوع الثقة في القطاع الخاص أن يحددوا المجال التي تنشط به شخصيات ومؤسسات القطاع الخاص التي يدرسونها ويحللونها.
هناك العديد من الأبحاث التي قد تفسر الثقة المتدنية في مجتمعات الأعمال الحرة. ينظر إلى القياديين والقياديات في مجتمع الأعمال في معظم البلدان العربية كمستفيدون من رأسمالية المحسوبية، يفتقدون إلى الشفافية، يسعون إلى المكاسب الآنية ويستثمرون القليل في مجتمعهم المحلي (إما عبر تمرين الكودار أو برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات). كما يحاججا إسحق ديوان ومصطفى نبيل، فإن مدركات الفساد في مجتمع الأعمال الحرة توازي نظيراتها المتعلقة بالفساد ككل، فيما يدعو الباحثان للفصل تحليلياً ما بين شخصيات الأعمال الحرة والمؤسسات المصرفية لضعف ارتباط نسب الثقة ما بينهما. تدعم نتائج استطلاع الباروميتر العربي هذه الخلاصات بما أنه ترتفع نسب الثقة في المؤسسات المصرفية في كل البلدان العربية عن مثيلاتها في شخصيات الأعمال.
أما بالنسبة للثقة في مؤسسات الصحة والتعليم الخاصة، فهي بحاجة للمزيد من الأبحاث لتحليلها وفهم أسسها. تشير الدلائل الحديثة من الأردن على سبيل المثال بأنه في حين يفضل المواطنون الالتحاق بمؤسسات التعليم الخاصة، تبقى مسألة الكلفة عاملاً حاسماً يحول دون ذلك. في الواقع، تجد العديد من الأسر الأردنية نفسها مدفوعة خارج سوق التعليم الخاص ومرغمة على اللجوء إلى التعليم العام، الذي يعاني من ما يعاني منه وبالأخص هجوم الدولة مؤخراً على قواه العاملة. في نفس الوقت، تشكل تجارب الحكومات العربية في مكافحة فيروس كورونا فرصة لنقد وتقييم البنى التحتية للصحة العامة وإمكانية المشافي سواء العامة أو الخاصة للتعامل مع الوباء. كما هو الحال مع باقي المقاييس، يصعب التعميم عبر المنطقة العربية ككل، ولكن تشير البيانات إلى تفاوت كبير في نسب الثقة في القطاع الخاص حسب المجال والتخصص. على الباحثين المهتمين في المنطقة العربية والحكومات الأجنبية والوكالات الدولية أخذ هذا التفاوت في عين الاعتبار حينما يشجعون على التحرير الاقتصادي في المنطقة.