ليس سراً أن العالم العربي يعاني من أزمة حوكمة مزمنة ومستمرة. كانت هذه الأزمة الدافع الأكبر لموجة الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد العربية في عام ٢٠١١، والتي أدت بدورها لخلخلة معظم الأنظمة وسقوط بعضها، وتداعياتها مستمرة إلى يومنا هذا. لذا، تبقى الأسئلة التي تتعلق بالثقة في الحكومات وبتقييم العمل الحكومي في غاية الأهمية والراهنية للشعوب العربية. حتى في تونس، والتي افتتحت موجة الاحتجاجات وأسفرت تلك الاحتجاجات عن أنجح النتائج، تبقى أزمة الحوكمة راهنة ولم تجد حلول وافية حتى اللحظة.
سبق وأن أشرت في منشور سابق إلى نسب الثقة المختلفة في المؤسسات السياسية في العالم العربي، ففي حين تتدنى نسب الثقة في الحكومات في العالم العربي، تبقى تلك النسب أعلى من غيرها من المؤسسات السياسية التي من المفترض أن تكون أكثر تمثيلاً للشعوب (مثل البرلمانات والأحزاب السياسية). كما وتتفاوت نسب الثقة في الحكومة من بلد عربي لآخر، فوفقاً لبيانات الدورة الخامسة من الباروميتر العربي، تتراوح النسب بصورة كبيرة، من ٦٦ بالمئة في مصر، إلى ٥٧ بالمئة في اليمن، و٤٧ بالمئة في الكويت، و٣٨ بالمئة في الأردن، و٣٣ بالمئة في كل من فلسطين والسودان، و٢٩ بالمئة في المغرب، و٢٠ بالمئة في تونس، و١٩ بالمئة في كل من لبنان والعراق، وأخيراً ١٠ بالمئة فقط في ليبيا.
كيف ممكن تفسيرهذه البيانات؟ أحدى التفسيرات قد يكون في وجود تناسب عكسي ما بين حرية انتقاد الحكومة ونسبة الثقة بها، وذلك بما معناه أن كلفة التعبير عن عدم الثقة في الحكومات منخفضة في البلدان التي تحوي أقل نسب الثقة (ليبيا، لبنان، العراق وتونس). تفسير آخر للبيانات قد يتضمن مقارنتها بمنعطفات تاريخية أخرى أو بالبيانات الموجودة لدورات سابقة. وفقاً للدورات السابقة للباروميتر العربي، تشكل نسب الثقة في الحكومة المذكورة أعلاه ارتفاعاً عن سابقاتها في كل من لبنان واليمن، وثباتاً في كل من مصر وفلسطين، وانخفاضاً في العراق والأردن والكويت والمغرب والسودان وتونس. تدل هذه المسارات المتضاربة لنسب الثقة على صعوبة تحديد مسار موحد على صعيد المنطقة العربية، وعلى أهمية السياقات الوطنية في تحديد هذه النسب، وتالياً على صعوبة التعميم عبر البلدان العربية.
من المهم هنا التفرقة ما بين المستويات المتعددة في الحكم والتي، بالرغم من تداخلها يجب تحليلها بمعزل عن هذا التداخل. من الدارج في تدريس المؤسسات السياسية المقارنة أن يقوم علماء السياسة بالتفرقة ما بين مؤسسات الدولة والنظام والحكومة بشكل هرمي، حيث تقع في أسفل الهرم المؤسسات السيادية التأسيسية للدولة كالجيش الوطني، والخدمة المدنية، والمؤسسة الأمنية والقضاء. من الملاحظ تمتع هذه المؤسسات بنسب ثقة عالية نسبياً في البلاد العربية. على المستوى الثاني من الهرم تقع مؤسسات النظام السياسي، ببناها الديمقراطية أو السلطوية (في غالبية البلدان العربية). تتضمن هذه المؤسسات آلية تداول القيادة في مؤسسات الدولة المختلفة (كماً ونوعاً)، ومن ضمنها الحكومة. في أعلى الهرم تقع الحكومة، السلطة التنفيذية أو مجلس الوزراء، وهؤلاء هم المسؤولون عن إدارة وتسيير الشؤون اليومية للبلاد.
حينما تستفسر استمارة أسئلة الباروميتر العربي عن نسبة الثقة في “الحكومة” تحدد بدقة أنها معنية بمجلس الوزراء أو السلطة التنفيذية. باقي أسئلة الثقة في المؤسسات تحدد مؤسسات الدولة ا لأخرى، مثل الجيش والقضاء والبرلمان – ومن ضمنها رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء. مع ذلك، تتعمد الأنظمة السلطوية تمويه الحدود الفاصلة ما بين مؤسسات الحكومة والنظام والدولة لكي تهدد المجتمعات بانهيار الدولة في حال سقوط النظام. وقد تجنبت تونس ومصر هذا المصير القاتم بعد ال٢٠١١، فيما تحقق هذا المصير في العراق ما بعد ٢٠٠٣ وليبيا واليمن ما بعد ٢٠١١، وفي حين أن النظام لم يسقط (بعد) في سوريا، انهارت الدولة السورية تماماً (إذا كان ممكن وصف سوريا الأسد كدولة). في هذا النوع من الأنظمة، تبقى درجة تأثير مجلس الوزراء في الحكم، أي في صناعة واتخاذ القرار السياسي، غير واضحة، مع الإشارة إلى أنه نادراً ما نجد أن الحكومة في هذه الأنظمة تحكم بالفعل، ما يزيد من صعوبة التعويل على نسب الثقة.
ونظراً لنوعية الحكم التاريخية في البلدان العربية، تفقد الشعوب العربية الثقة في حكوماتها بطريقة غريزية. وبالتالي، فقلما وجد تأثيراً كبيراً للأشخاص الذين يحتلون المناصب في السلطة التنفيذية، وإنما ستكون الثقة في الحكومة كجهاز مؤسساتي منخفضة بغض النظر. ويشعر المواطنون بإمكانية أكبر لانتقاد الحكومة أو التعبير عن عدم الثقة بها بالمقارنة مع مؤسسات الدولة الأخرى كالجيش والأمن ورأس الدولة.
أخيراً، شكل وباء فيروس كورونا تحدٍ جديد ونوعي للحكومات العربية، وتفاوت أداء هذه الحكومات في التصدي له. في الأردن مثلاً، أسفر الأداء الحكومي في التصدي للوباء عن انتصاراً كبيراً للحكومة على صعيد العلاقات العامة. أما في مصر على سبيل المثال، لم يكن الأداء الحكومي على نفس السوية. نتأمل أن بيانات من الدورة السادسة للباروميتر العربي حين توفرها ستزيد من علمنا عن تقييم الشعوب العربية لأداء حكوماتها في التصدي للجائحة. إلى ذلك الحين وبعده، تبقى مقارنة مستويات الثقة في الحكومات العربية تجربة فكرية مشوقة وإن كانت محفوفة بالمخاطر.