كان للشباب قبل عقدين من الزمن دور اجتماعي وسياسي مهم في الجزائر؛ فحتى ذلك الحين كانوا في واجهة معظم الأحداث المهمة في تاريخ البلاد المعاصر (حرب التحرير، انتفاضة أكتوبر 1988، ومشاركة واسعة في الانفتاح السياسي قصير العمر 1989-1991)، كما غذُّوا الأحداث الدامية التي أثَّرت بشدة على المجتمع الجزائري.
منذ نهاية النزاع الداخلي المسلح في أوائل عام 2000، تضاءل حضور الشباب في الساحة العامة نسبياً، فلم يكونوا جزءًا من الحركة الكبيرة التي اجتاحت المنطقة في سياق ما يُعرَف بـ”الربيع العربي” الذي بدأ أواخر عام 2010.
وقد عزا بعض المحللين انحسار دور الشباب إلى التجربة المريرة للحرب الداخلية، إلى جانب تزايد التيار الاجتماعي والديني المحافظ في المجتمع بشكل عام. ويتجلى ذلك بين الشباب في أشكال السلفية والطرق الصوفية العديدة، وكليهما يدعوان إلى النأي بالنفس عن الشأن العام وخاصة السياسي منه، إضافةً إلى الارتفاع الملحوظ في الممارسات القديمة الشعبية، كالرُقية، والسحر والشعوذة.
وترافقت النزعة الاجتماعية والدينية المحافِظة مع الانسحاب الجماعي للشباب من المشاركة السياسية، في دلالة واضحة على اللامبالاة السياسية.
في هذا السياق لاحظ أحد الباحثين في الشأن الجزائري: “وفقا لتقارير عدة، فإن ظاهرة أسلمة المجتمع الجزائري في تزايد، وهذا على الرغم من الازدراء الجماعي (الظاهر) للإسلاموية. هذا لا يعني أن الجزائريين الآن هم أكثر تديناً مما كانوا عليه قبل عقد مضى، بل إن مظاهر التقوى الخارجية أصبحت تكتسي أهمية متزايدة؛ فقد تنامت المحافظة الاجتماعية في المواقف العامة، لدرجة أن الطبقة السياسية الواسعة وأعضاء الأحزاب الوطنية ذات التوجه الوسطي (غير الإسلامية) قد أصبحوا يبرزون تلك المظاهر أكثر فأكثر”[1].
إذن ، كم من هذا يرجع إلى التغيرات في النظرة والمواقف والاتجاهات؟
استنادًا إلى بيانات مقياس الباروميتر العربي التي تم جمعها خلال السنوات الـ 11 الماضية عبر أربع موجات، تحاول هذه الدراسة وصف وشرح ما إذا كان هناك تحول في المواقف والتوقعات الخاصة بالشباب الجزائري، كما يذهب إليه بعض المراقبين والمحللين.
من أجل اختبار هذه الأطروحة تم فحص وانتقاء ثلاثة قيم أساسية تعكس القيم الاجتماعية: الأولى الثقة بين الأفراد، لأنها شرط ضروري لبناء علاقات اجتماعية سليمة وقاعدة أساسية لتشييد المؤسسات والمشروعية السياسية. والثانية التسامح الاجتماعي، وهي أيضاً من ضرورات العيش المشترك وركيزة للثقافة المدنية وحرية الرأي واحترام الاختلاف والحفاظ على السلام الاجتماعي. والثالثة الموقف من المرأة ودورها في الحياة الخاصة والعامة: فمكانة المرأة تعكس مدى تقدم المجتمع وتكافؤ العلاقات الاجتماعية فيه، كما أن تمكين المرأة يحرر طاقات كامنة تضاف إلى قدرة المجتمع الكلية. وجاءت نتائج تحليل المتغيرات الممثلة للقيم الاجتماعية خلال الأربع موجات للبروميتر العربي، على نحو ما يلي:
- الثقة بين الأفراد
لم تكشف البيانات عن اتجاه واضح خلال 11 سنة وأربع موجات من المسح. بل هناك تقلب جلي في المواقف، ولكن وبصفة عامة فإنه بالكاد يوجد اثنان من الجزائريين من أصل 10 في المتوسط يثقون ببعضهم. وتنخفض هذه النسبة أكثر بين أفراد الجيل الأصغر إذ بلغت 15% فقط. ولا تنحصر الثقة الاجتماعية المنخفضة في الجزائريين، وإنما هي حالة شائعة في معظم الدول التي شملها المقياس العربي حيث سجلت الثقة بين الأفراد 18% في المتوسط.
إن الحقبة المضطربة والعنيفة التي عاشها الجزائريون في العقود الأخيرة لا يمكنها وحدها تفسير مستوى الثقة المنخفض؛ فللعوامل الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والثقافية دورٌ في تفسير انعدام الثقة بينهم.
- التسامح الاجتماعي
تم قياس هذا المفهوم في السياق الجزائري من خلال طرح أسئلة تتعلق بالموقف تجاه الآخرين الذين يختلفون عن الأغلبية الجزائرية في الدين أو العرق أو الإثنية قد تعكس مفهوم التسامح بشكل أفضل. فكان السؤال: لكل فئة من الفئات التالية،الرجاء اذكر هل تقبل أم ترفض أن يكونوا جيرانا لك؟ أ- أُناس من ديانة مختلفة عن ديانتك؛ ب- أُناس من عرق مختلف؛ ت- عمالة أجنبية؛ ث- أناس ينتمون إلى مذهب أسلامي مختلف عن مذهبك. فجاءت النتائج كما يلي: يبدو أن المُجيبين من الموجة الرابعة (استطلاع 2016) أقل تسامحا خاصة تجاه المجموعات الدينية الأخرى والطوائف (والمذاهب) ، والعمالة الأجنبية إلى حد ما.
انخفض قبول الأديان الأخرى من 69.2% في عام 2006 إلى 51.1 % في عام 2016. وهذا ما يؤكده أيضا نسبة عالية من التعصب (45.8 %) لأولئك الذين ينتمون إلى طوائف مختلفة من الإسلام.
وفيما يتعلق بالتسامح مع المهاجرين كجيران، انخفض التصنيف من 74.4 % عام 2011 إلى 65.7 % في عام 2016. ويشير عدم التسامح مع الأديان الأخرى والطوائف الإسلامية الأخرى مثل الشيعة والإباضية والأحمدية، على سبيل المثال، إلى الصعود القوي للسلفية في الجزائر.
وقد تمت الإشارة إلى هذه الحقيقة على نطاق واسع والتعليق عليها من قبل بعض المحللين، ووسائط الإعلام المحلية أيضًا. السلفية غير متسامحة بشكل عام وخاصة تجاه الاتجاهات الأخرى داخل الإسلام.
هناك علاقة بين العمر والتسامح الاجتماعي فالجيل الشاب أكثر تسامحًا بنسبة 45.3٪ مقابل 39.5٪ لدى الجيل الأكبر. ما هو ملحوظ أيضا هو انخفاض التسامح بين الفئة العمرية 35-44 سنة التي كانت في سن التكوين خلال مرحلة الصراع الأهلي في الجزائر في مرحلة التسعينات، حيث أن نسبة التسامح الاجتماعي بين أفرادها جاء منخفضا (26.4 في المائة بين الذكور) و(36.4 في المائة بين الإناث).
- المواقف من المرأة ومكانتها
اتخذت العلاقة بين الرجل والمرأة في المجال الخاص والعام في الجزائر، ومنذ الاستقلال، أبعاداً مختلفة تتضمن حججاً دينية سياسية وأيديولوجية.
ويبدو أن هناك اتجاه يتعلق بمكانة المرأة وقضايا الجنسين. الجزائريون الذين ينتمون إلى الموجة الرابعة لديهم أكثر المواقف محافظة، حيث يوافق 38% منهم فقط على فكرة أن المرأة يمكن أن تصبح رئيسة أو رئيسة وزراء في بلد مسلم مقابل 62.7% في الموجة الأولى من المجيبين. وبالمثل، نسبة عالية (78%) يعتقد المشاركون في الموجة الرابعة أن الرجال يصنعون قائدًا أفضل من النساء. والقيمتان المتعلقتان بوضع المرأة التي يبدو أنها تحقق بعض الإجماع هي الحق المتساوي في التعليم العالي وحق المرأة في العمل بعد الزواج. ومع ذلك، لا يزال الجزائريون محافظين عندما يتعلق الأمر بإعطاء المرأة دوراً نشطاً في الحياة العامة والسياسية.
- العمر والجنس ومكانة المرأة
تم بناء مؤشر لمكانة المرأة من خلال المتغيرات التي سبق ذكرها، وجرى توزيع المؤشر بحسب العمر والنوع وكانت النتائج التالية: 25.5% من الجزائريين يعطون المرأة مكانة متدنية، و 30.4% يمنحونها مكانةمتوسطة، و 44.1 % مكانة عالية. وكما هو متوقع، هناك فجوة جنسانية حول وضع المرأة؛ ففي حين أن 38.7% من الرجال أعطوا مكانة متدنية للمرأة ، فإن 12.3% فقط من النساء فعلن ذلك. كما أنه و في حين أن 6 من كل 10 نساء يعتبرن أنفسهن يتمتعن بمركز عالٍ، فإن 3 فقط من كل 10 رجال يرون ذلك.
وعلى الرغم من عدم وجود فروق كبيرة في مواقف الرجال من النساء بحسب الجيل الذي ينتمون إليه، فيلاحَظ أن الجيل الشاب ( 18- 24 سنة) يمنح أدنى مكانة للمرأة 25% مقابل 32.3% للجيل الكبير ( أكثر من 45 سنة).
لماذا الشباب لديهم تصور متدني لمكانة المرأة؟ هل هو نتاج تأثير العمر أم الجيل؟ يمكن المغامرة بالقول إن موقفهم مرتبط بالعمر، ذلك أنه في المرحلة العمرية (18-24) يفتقر معظم الشباب الجزائري لتجربة حياتية تكون المرأة طرفاً فيها. فقط في مرحلة لاحقة، عندما يبدأون في تكوين أسرهم، فهذه التجربة ربما ستغيِّر نظرتهم وتمنحهم فهماً أكبر لدور المرأة مما قد يغير أو يعدل من مواقفهم تجاه دور المرأة ومكانتها.
يمكنكم التواصل مع الباحث محمد فريد عزي عبر البريد الإلكتروني fazzim@hotmail.com
[1] Vish Sakthivel, Political Islam in Post-Conflict Algeria